«GATE».. بوَّابة الدخول لمسرح ما بعد الدراما

ثقافة 2024/03/18
...

 رضا المحمداوي

ارتبط الفن المسرحيّ ارتباطاً وثيقاً ولقرون عديدة بالنص المسرحي حتى اقترن أحدهما بالآخر ووصِفَتْ النصوص المسرحية بأنَّها صنف من صنوف الأدب المسرحي واعتبارها مادة أدبية خالصة يمكن قراءتها بشكل مستقل دون الحاجة إلى تجسّيدها فنياً.
إلاّ أنَّ النص المسرحي بطابعهِ الأدبي ومن أجل أنْ يكتسب طابع الحيوية والتفاعل والحضور الفني المؤثر لا بُدَّ لهُ من التجسيد بصيغة العرض الفني المسرحي على خشبة المسرح، وفي الوقت الذي تشير به المعلومة الكلاسيكية إلى أنَّ نشوء الفن المسرحي في بداياته الجنينية وبناء أُسسهِ الأوّلية  قد أُستمدَ من الطقوس والشعائر الدينية عند الإغريق قبل أنْ ينتقل هذا الفن الوليد إلى مرحلة الكتابة والتدوين وبما عرف فيما بعد بـ “التـأليف” إلاّ أنهُ بعد اكتمال نموه وتكوين شخصيته المسرحية الفنية المستقلة بقي بحاجة إلى الأدوات والوسائل والعناصر الفنية التي تحملها الطرائق والأساليب المختلفة وتجسّدها الرؤية الإخراجية التي يحكمها  طابع التطور والتجدد الدائم عبر الأزمان.
ومن مخرجات هذا التفاعل المتجدد والمتطور للرؤى الفنية الإخراجية مع معطيات الفن المسرحي ظَهَرَ لنا أسلوب فني مبتكر باتَ يعرف بـ “مسرح ما بعد الدراما” بمرتكزاتهِ وبخصائصهِ وسماتهِ الفنية المتميزة، وأهم تلك المرتكزات هو التنكّر لأبوّة النص المسرحي المكتوب وإلغائها تماماً، والتخلي بشكل نهائي عن مسرح اللغة والحوار ومقومات وعناصر الدراما الأخرى، ليتم التركيز على الصوت والموسيقى وأجساد الممثلين المتحركة والراقصة، ونتيجة لهذا الاحتفاء بالأجساد البشرية الراقصة مع طغيان الموسيقى العالمية والإيقاع الراقص شاعتْ تسمية ثانوية مرادفة لهذا النمط الجديد من العروض الفنية عُرِفَتْ بـ “دراما دانس” إضافة إلى المرادف الآخر المعنون بـ “الرقص التعبيري” وتداخلتْ الخصائص والمقومات الفنية لهذا النوع الفني بعناوينه وتسمياته المختلفة لتنجب لنا نوعاً فنياً جديداً  مُبتكراً  لَهُ خصوصيته وهويته المستقلة ليرتبط بمسرح ما بعد الدراما هو فن “الكيروغراف” حيث التخصص الفني في قيادة المجاميع البشرية بطبيعتها الحركية الراقصة ورسم تشكيلاتها وخطوط ومسارات حركتها على الخشبة، ترافقها الأهمية القصوى والحضور الطاغي لـ “سينوغرافيا” العرض الفني، مع تقشف واختزال كبير للديكور وقطعهِ وكتلهِ ومساحاتهِ ذلك لأنَّ الطبيعة الفنية المتحركة بحاجة إلى فضاء فسيح  لإستيعاب تلك المجاميع الراقصة.
وقد شهدنا بعض عروض هذا النوع الفني الجديد على خشبة المسرح العراقي هو وآخرها كان العرض الفني المعنون “ GATE” من سينوغرافيا وإخراج حليم هاتف.
وما زالت هذه العروض تعاني من اشكالية التسمية أو العنونة وغياب المصطلح الخاص بها في الإعلان عنها والترويج لها،فدائماً يتم التنويه لعروضها على أنَّها “مسرحية” بالمعنى التقليدي المتعارف عليه دون أية خصوصية تميزها عن غيرها.
“التأليف” وهو العنصر الدرامي التكويني الأوّل لا يكون ظاهراً أو متجسّداً على نحو واضح في هذه البنية الفنية ذات الطراز المسرحي والتي نغادر فيها الشكل المسرحي الكلاسيكي المتعارف عليه، ليجترح “المخرج” أسلوب المغايرة في البنية الفنية المستحدثة والتي غالباً ما تحمل معها عنصر الدهشة والإبهار والجدة أو الغرابة في اللعبة أو الصورة البصرية على مستوى التلقي في كسر ما هو مألوف ليقدَّم رؤية جمالية مبهرة.
وتبدو “الفكرة” هنا عائمةً وسط هذا الاشتغال الفني المبتكر، وسيكون الفضاء المسرحي المفتوح بمثابة الحاضنة الكبرى للتأويل حيث يتمدد ويتسع هذا العنصر الأخير مع إتساع الرؤية الفنية لدى المخرج.
وسيبقى السؤال شاخصاً عن “ماهيّة” الرسالة أو المضمون الذي يريدُ المخرج إيصالَهُ إلى المتلقي المندهش أو المستغرب أمام هذه العوالم الفنية الجديدة على ذائقته القديمة.
وغالباً ما تكون ثنائية “الشكل والمضمون” في مثل هذا النوع من العروض الفنية في أشد حالاتها جدلاً واِلتباساً في الطرح والتناول والمعالجة، وفي قيمة العمل المُنتَج نفسه في المحصلة الأخيرة.
ولا شكَّ أنَّ هذا الأسلوب المستحدث الجديد الذي ينتمي إلى “مسرح ما بعد الدراما” يفتح الآفاق واسعةً أمام حقل التجريب الفني في استخدام التقنيات والتعامل مع مفردات العرض المسرحي لنكون في النتيجة أمام تجارب متطورة ومتحوّلة إلى ما يشبه “التيار، أو المَوْجة، أو الإتجاه” الفني الذي يتضمن اشتغالات جديدة على مفردات ومُكوِّنات العرض “المسرحي” الجديد بنسختهِ المُبتكرة والقائمة أساساً على عنصر الحركة والرقص الدرامي،حيث يصبح الجسد البشري للممثل هو الشكل الخارجي الذي يحتوي في حركاتهِ ورقصهِ التعبيري الفكرة أو المضمون الدرامي الكامن.
ويعتمد هذا الفن أو اللون المسرحي على تحرير طاقة الجسد لدى الفنان بـ “شكل” منفرد أو “شكل” جماعي راقص ومتحرك، وقد يستعير هذا الرقص بنوعيه “المفرد والمجموع” طريقة أو أسلوب أداء الشعائر والطقوس العالمية لدى الشعوب أو القبائل والأمم،حيث تمنح طاقة الرقص للجسد البشري قدرتَهُ على الحركة والانطلاق بروح وثابة ومندفعة وقادرة على الرسم والتشكيل الحركي داخل فضاء اللون والإضاءة بمصاحبة الموسيقى والإيقاع الصاخب المتواصل، وغالباً ما يكون الرقص الفردي والجماعي مشحوناً ومتوتراً،وعلى هذه الأجساد الرشيقة الراقصة أنْ تؤدي المهمة التي أُوكلَتْ إليها في قول ما يمكن أنْ تقولَهُ أو حمل ما يمكن حملَهُ بدلاً عن الحوار المسرحي التقليدي، وأنْ تحمل على عاتقها،كذلك،ثقل المعنى المُراد إيصاله إلى المتلقي.
ويمكن على صعيد التلقي والنقد أن نطرح أسئلة من مثل:
- هل ثمة معنى مُحدّد يمكننا الاشتباك النقدي معه في عروض هذا المسرح المستحدث؟
-  وأيّ المعايير يمكننا الاحتكام إليها لتقييم هذه العروض الفنية الجديدة؟
 -  وكيف يمكن التفاعل  والتعاطي معها في ظل غياب المرجعية الأكاديمية والأسس التنظرية الفنية لها؟
فـ «النص» المكتوب أو الأثر الأدبي المُدوَّن أو حتى النص المُعَد و»الممسرح» غائب عنا تماماً ولا يبقى أمامنا سوى الاعتماد على «سيناريو» العرض الفني الذي اقترحَهُ أو قدَّمَهُ المخرج مُجسَّداً «صورياً» على خشبة المسرح، ولا أقول قام بـ «كتابة النص» بمعنى التدوين والكتابة المسرحية المتداولة والمعروفة وواقع الأمر يشير إلى أنَّ مثل هذه العروض التي باتَ يشهدها المسرح العراقي تضعنا أمام امتحان «التلقي، أو التفاعل، أو التعاطف» مع هذه «الفرجة المسرحية»
المُبتكَرة.
لقد شاهدتُ وتابعتُ العديد من عروض «مسرح ما بعد الدراما» لدينا ولمستُ غياباً تامَّاً للمتابعات النقدية لهذه العروض وعدم اخضاعها لمشرط النقد -فهل تقع هذه العروض المسرحية خارج منطقة النقد الفني مثلاً؟ أم أنَّ طبيعة هذه العروض ومكوناتها وعناصرها وأساليبها وأدوات تجسيدها على المسرح لا تخضع لمعايير وأدوات الناقد الغائب عنها؟ وأزاء هذا الغياب الواضح ليس بوسعنا سوى أنْ يكون حالنا حال الجمهور الموجود في صالة العرض لنكتفي بالاعجاب والتصفيق من دون الخوض في تفاصيل العرض الفني أو محاكمة الرسالة أو المضمون الذي جسَّدَهُ الممثلون الراقصون على خشبة المسرح.

وهل بالإمكان في هذا السياق أنْ يتم إستحضار الطقوس والشعائر العراقية «المحلية» لتكون حاضرة على نحو واضح ومميز يؤكد خصوصية وهوية هذه العروض لا سيِّما على مستوى الموسيقى والأغاني العراقية بطبيعتها المميزة للخروج من الشرنقة العالمية التي دائماً ما تلتف على هذه العروض لتكون مرجعيتها الوحيدة.