الناسكُ الذي عشق البياض

ثقافة 2024/03/18
...

 د. كاظم عبدالله

الأدباء -أقصد الحقيقيين- أناسٌ أولعوا بالجمال، رؤوسهم معفّرة بالإبداعِ وهم منهمون لايشبعون من التنقيب والكشف عن مكامن الرقي في انتقاء الكلمة وانبثاق العبارة في صورٍ مبتكرة تسعى إلى كسر النمط السائد، وهي رغبة ملحّة لدى المبدع في إنتاج نمطٍ جديدٍ لا يكون ظلًا لحالاتٍ إبداعية سابقة، وإنما يهدمُ سلوكًا اجتماعيًّا واهنًا ويغرسُ نواةً لولادةٍ جديدةٍ ترفضُ التثائب والركود وتستفزُّ إطالة الجمود، تساعده في ذلك قدرتُه على الخلق «الاختراع» وهي ملكة تلازم المبدعين، فضلًا عن اتّقان مكملات العمل الأدبي من «صرف ونحو وبلاغة..» وغير ذلك من متعلقات الأدب المهمة.
والتعبير الأدبي نفثٌ من روحٍ تتأجج بالانفلات ولا تتمحور حولَ ذاتها فهي تتحرك لتضيء ما انحسرَ حولها من عتمة بوعي حثيثٍ للنهوض بواقع الإنسان، فقد تتشظى الكلمات لتكون حروفها سيوفًا تقطع أوداج السكون وتضعُ ألف علامة للتساؤلِ، أو تكون ضحكات على شفاه الورد ولمعان السنابل.
ومن سمات التعبير اللغوي أن يحمل صفة التأثير والخلود في النفس الإنسانية ولا يأتي ذلك إلّا عبر المرور بمراحل ومحاولات كثيرة تتنامى وتتبلور حتى يصل الأديب إلى قمّة إبداعه ويواكب تقلبات الحياة.
وشلال عنوز الأديب الشاعر ثمَّ الروائي الذي يحلّق في صومعة الكلمات ويغوصُ في دلالاتها وهو يستلهم أفكاره من ملامح وجه الوطن الذي «سيهزم الضجيج» ويستعيدَ عافيته، إذ يقول: «عندمَا تخترقُ الريحُ/ صمتَ القرى/ يُعلنُ الضجيج/ أكسدةَ المشاعر/ ويتفاءلُ بنهوض الوطن».
فيقول: «أيَّها الناسكُ الذي عَشِقَ البياض/ تسامى في أفقِ الشموخ/ لا تكترثُ فأنتَ ما زلتَ تستحمُّ/ بالضوء والصلوات».
ويتأملُ تارةً في عيني الوطن «دجلة والفرات» وينادي ماءهما بأسئلةٍ كثيرةٍ قائلًا: «أيّها الماء الخالد/ لماذا نحنُ دونَ خلق الله/ نصفِّقُ للأشباح؟/ ننشدُ للمهزومين/ نقدِّسُ طغاتنا...».
ومن فرط حبّه للوطن أوردَ كثيرًا من رموز الوطن في شعره من مثل بابل، كلكامش، الإمام علي والحسين «عليهم السلام»، كربلاء، بغداد... وغيرها، يقول: «فصوتي هو الحقيقة الآتية من/ أعماقِ بابلَ/ تشظيات «كلكامش»/ وجع علي/ مررة دمِ الحسين».
أمّا من الناحية الفنيّة فقد وردت صورًا فنية تزخرُ بالمجاز والدهشة بلغة بعيدة عن التقريرية المستعملة تُنبئُ عن خيالٍ واسعٍ وعبقرية شعرية قلَّ مثيلها، من مثل قوله: «وسنابكُ اللغو المسرطن/ تدوسُ بصيص صبر البصيرة/ هناك.. حيثُ تيتَّمَ صوتُ الله/ ترمَّلَ النهر..».  فقد جعلَ للِّغوِ طرفًا لحافرٍ مسرطنٍ يدوس.. ووضعَ أفكاره في استعارات متداخلة ولَّدت خيالات واسعة لدى المتلقي (سنابك اللغو+ تدوس بصيص+ صبر البصيرة) ثمَّ يذهبُ إلى استعارة ثالثة «تيتَّمَ صوت الله» إذ شبَّه صوت الحقّ بصوت الله، وإذا هناك يتمٌ فهناك أرملٌ رمز إليه بالنهر وهذا الانثيال الصوري فتحَ مسارات كبيرة للحركة الذهنية في أنْ تحدد مقاصد الشاعر ودلالاته، ومن هذا الجمال النصّي تعبيرات كثيرة لا تحصى تحتاج من يغوص فيها بعمق.