{الأوراق الميتة}.. قصة حب مضيئة في ليل بعيد

ثقافة 2024/03/18
...

  مبارك حسني*

يعد أكي كوريزماكي من طينة المخرجين الذين يفاجئون المشاهدين بثبات عوالمهم التخيلية السينمائية، حيث البسيط الممتنع، هو السمة الغالية في قص حكايته. يفرض هذا الطرح نفسه، على الرغم من تكراره مرارا، إنه المؤلف السينمائي الذي يكتب بالصور، وليس المخرج الذي يتقن التصوير، بغض النظر عن المضمون الملتحم التحاماً بالشكل في تداخل يخلق المعنى.

في "الأوراق الميتة" الذي نال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان الأخير، رجل وامرأة، كل واحد مهم في عالمه الخاص، ضائعان في ليل مديني لا يمنح للذات، الا العزلة والتيه غير
المريح.
لكنه في ذات الوقت ليلٌ حنينيٌّ وحاضنٌ عاطفيٌّ، فضاؤه زمنيٌ قبل أن يكون مكانياً، يحبل بإمكانات اللقاء غير المنتظر، والصدفة المفاجئة والخروج من عنق زجاجة القهر الوجودي، فهو زمنيٌّ في علاقته بالكينونة، فالفيلم الذي تدور وقائعه في سنة 2022، ينقل علامات زمنٍ مختلفٍ.
المرأة تستمع إلى الأخبار في مذياع يعود إلى الستينيات من القرن الماضي، وهو يخبر بمالات الحرب في أوكرانيا الحالية.
إلا أن ما يُزيِّن جدران المقهى التي يرتادها الرجل للشرب بشراهة ملصقاتُ أفلام أسطورية تنتمي إلى ذات الستينيات.
لن يُسْتَعْملَ الهاتف النقال إلا في النصف الثاني من الفيلم وللحظات قليلة.
والألوان الغالبة لا تنتمي إلى مِلْونة داكنة أو لامعة، لكن تم منحها صبغة عتيقة تناسب "الحنينية" التي تحدثنا عنها، وتوافق مقاربة فلسفية للحياة المحايدة، التي بلا فرح كما بلا حزن، فقط سير ومصير ينتظر الحادث الفارق الذي سيخلق الثورة على المستوى الشخصي أو التغيير الواجب.    
هذا الترسيخ لزمنية سالفة في حركية زمن حاضر، هي جديد أكي كوريزماكي في "الأوراق الميتة"، ولا يظهر التنافر بتاتا، ولا أي خلخلة سردية، أو توليفية، أو تصويرية حتى. نعم، فما الذي سيخلق ذلك، ما دام المخرج ارتقى بقصة البطلين إلى مستوى القصة الخالدة التي تعني كل الناس، وتحدث للكل كما حدثت دوما وكما ستحدث
لاحقا.
تدور الوقائع بسلاسة وبتشويق واضح لا يمكن الفكاك من أسره.
فبعد فراغ حياتي، اذ يغيب الألق ويسود ما يشبه السأم، يلتقي البطل الشِّريب الذي لا يرسو على عمل قار، بالبطلة التي تعمل بأحد المحلات التجارية.
هو ملول وصامت، وهي محايدة وصامتة.
يلتقيان في حانة متوسطة الإنارة ذات ليل متوسط السواد.
تمنحه رقم هاتفها، لكن ريحا تائهة ستطَير بها في لحظة عدم انتباه وترمي بها على رصيف.
فتتوقف العلاقة في بدايتها، ويعود كل واحد منهما إلى الفراغ الحياتي السابق، لكن هذه المرة مع احساس بالحسرة وتسلل أمل ضعيف لكن حقيقي في لقاء ثان.
وهو ما سيقع، لكن أكي كوريزماكي يتدخل ليضع في الأجواء فترات ترقب كلها شِعْرٌ وموسيقى وأغانٍ تهز القلوب، وهو يتتبع شخصياته.
فلا يتم التوافق بينهما حين تدعوه للعشاء بشقتها.
قال لها: "أنا لا يتحكم فيّ أي شخص"، وقالت هي لصديقتها:" لقد ظن بأن شقتي عبارة عن حانة"، مما ينعطف بالفيلم إلى عملية بحث باطني وسؤال وجودي لدى البطل.
لأن التغيير والمنعرج الذاتي، يفترض التضحية المحضة من الطرفين، لكن كيف يمكن إحداث ذلك؟
هنا يتجلى ذكاء الفيلم. عندما يقرر البطل أن يُلقيَ بالقناني في المغسل ليُنهي مرحلة الهبوط إلى الحضيض، ويُهاتفها لِلِقاءٍ من جديد، ويستلف سُتْرةً جديدة، كما لو كان يغير جلده بجلد أنظف وألْيَق، يصدمه قطار.
فتقوم هي بحصتها من التضحية: الانتظار والقراءة والكلام بصوت مسموع أمام سريره بالمستشفى.
المعجزة ممكنة، يستفيق، وتتطاير أوراق شجر ذابلة بمقعد في حديقة يمران بالقرب منه، في مشهد خاص شاعري وجميل بما يوحي به من هناء.
إنه خريف البدايات، خريف التجديد، خريف حياة أخرى تنهض من سباتها.
 الفيلم قصيدة شعرية من القوة بمكان على إيقاع النغمة البودليرية الحداثية، وإيقاع لوحات تشكيلية صادحة بحياة المدينة على طريقة التشكيلي الأمريكي هوبر، يخلق الأثر العاطفي القوي في النفوس ويُصالح الذات مع ردهات الشوارع والمقاهي، حيث يترصد ،ضياع الإنسان غير المسلح بما يكفي من الشعر لمقاومة المحو.
بدون تعقيد ولا مبالغة ولا تجريب فارغ، بل بواسطة لقطات مؤطره تمنح الشخوص وجودا، يعلنون عنه بنظرات خاطفة، أو مكتفية لكن موحية، وإيماءات مقتضبة لكن بليغة، ببسمات شبه محتشمة، وردود فعل لا تُلزم الجسد إلا بما يجب من سلوك واجبٍ، قبل أن يتحمل صاحبه في صيرورة العزلة أولا، ثم لما يحدث التوافق واللقاء الذي لن يعقبه انفصام.
لقد روى أكي كوريزماكي قصة حب مضيئة وصافية، بتفاصيل دقيقة وتحكم مضبوط في التسيير. لا شيء زائدا أو ناقصا.
نتلقاها مثل دعوة إلى الدخول في رحابة عالم العواطف الحقيقية حين لا يشوبها الغلط ولا تؤثر فيها سطحية العالم.

  * كاتب ومترجم مغربي