قصتان قصيرتان جداً

ثقافة 2024/03/19
...

  باقر صاحب


شرنقةٌ سوداء 

كانت «سهاد عبد الخالق» تحلمُ كلَّ ليلة في مأواها البائس، بأنَّ عنكبوتاً هائلَ الحجم، تلتفُّ  خيوطهُ السودُ الضخمة على جسدها الضامر، ولكنَّها في كلِّ مرةٍ تصفعهُ بنعالها المتهرّئ، ومن  ثمَّ تستيقظُ مرتعبةً، والفجر قد بدأ ينسج خيوطه الشمسية.. وفي غمار كدحها في العمل كخادمةٍ في مدرسة متوسطةٍ مازال أحد أبنائها الخمسة يدرسُ فيها، تنسى سؤال المدرساتِ عن تفسير ذلك الكابوس – الحلم .

كانت طالبةً  في الزمنِ الأغبر، وكانَ  أبوها البائسُ الحال،  حارسَ تلك المدرسة، فأسكن عائلته في غرفةٍ خلفية، لم تواصلْ دراستها، وإنما أجبرها أبوها للذهابِ  إلى بيتِ زوجها الذي لم يكنْ أفضلَ حالاً من غرفةِ الحراسة. زوجٌ جاهلٌ، كلُّ طموحهِ أن يحصلَ على عملٍ بأجرٍ يومي نهاراً، ويهدرُ ما يحصلُ عليه على الكحولِ والحبوبِ المخدّرة ليلاً، شاءَ حظها العاثرُ أن يعودَ في إحدى الليالي ثملاً جداً، فيطردها وأبناءها لتعودَ إلى شرنقةِ المدرسةِ المتوسطةِ عاملةَ خدمة. مات أبوها قهراً من العوز والأمراض، فأشفقت عليها إدارة المدرسة، بأن  تبقى في تلك الغرفة الخلفية، مادام معها أبناؤها.

وفي أحدِ الصباحاتِ تناهى لـ “سهاد” خبران، خبرُ مقتلِ زوجها إثر معركةِ بالسكاكين مع أصدقاءِ السوءِ فيما بينهم، والثاني، خبرُ تفوُّق ابنها الأكبر “جهاد” في الامتحانات العامة للدراسة الإعدادية، وبمعدّلٍ عالٍ يتيح له الدخول إلى  كليتي الطب أو الهندسة، فقالتْ “سهاد” بصوتٍ جهوريٍّ بعد أن كانت  تكلّم نفسها بصوتٍ واطئ:

- مات العنكبوت الأسود بنعالي البالي، بثاراتي مات.. بأبنائي الملائكة. 

كلُّ من يرى “سهاد” يقول إنها جُنّت، إذ خرجتْ راكضةً حافيةَ القدمين، من تلك المدرسةِ –الشرنقة إلى الخارجِ الرحبِ، الذي تراه تمددَّ وتوسَّع بشكل لم تألفْه من قبل، خرجتْ تستقبلُ ابنها الذي ثأر لها من الشرنقة البالية للعنكبوت الأسود.   


أين بيت الداء؟ 

 كنت أعاني الإفلاس، وأنا جليسٌ بمفردي في مقهى على رصيف شارعٍ ضيق، تمخرهُ المركباتُ ذهاباً وإياباً، مثيرةً الغبار على وجوه جلاّس المقهى. هناك جليسانِ بقربي، فلأستمعْ إلى حديثهما، لعلّي أنشغلُ بفحواه عن صُداعِ الإفلاس. 

- عجبي من ثريٍّ يمرض، وهو يملكُ ما يستطيعُ أن يشتري بأمواله  أرقى الوصفات الطبية من مناشئ عالمية، فضلاً عن العلاج في الخارج- قال الأول. 

- فردّ الثاني - الأمراضُ مثل الموت، لا تستثني فقيراً أو غنيّاً، جاهلاً أو عالماً - وأضاف- لذلك الأثرياءُ يُمرضُهم النّهمُ في الأكل والإسراف في الشرب، و”بلاوي” كثيرة لا تُحصى. 

- اسألوني؛ أين بيت الداء؟ سأجيبكم- فاجأتهم بتدخّلي، وأكملتُ وهم مازالوا ساهمين- الفقر بيت الداء.. 

نهضت مبتعداً “حديثهما يزيد صداع الإفلاس” متّجهاً نحو كورنيش السماوة. نعاسٌ شديدٌ دهمني حينما اقتربتُ من إحدى المساطب، فلأنمْ هنا... ليس لي سكن.. 

-ها.. حضرة الدكتور، ماذا وجدتَ عندي من أمراض؟

-قلتُ ذلك- وأنا مستلقٍ في عيادةٍ غريبةِ الشكل، لاتشبهُ جميعَ عياداتِ أطباءِ السماوة المنتشرةِ  في جميعِ أحيائها التجارية. وقد انطبعتْ في بالي صورةٌ معلّقةٌ على أحد جدران صالة الاستقبال في العيادة، صورةُ شابٍ فقيرٍ يكرع الصفناتِ في أحد المقاهي، لا قنينةَ ماءٍ ولا استكانَ شاي ولا علبةَ سكائر، وتظهر بطاناتِ جيوبِ بنطالهِ المهلهل، وقد برزت خاويةً إلى الخارج.

- لديك كلّ الأمراض-  ردّ الطبيب.

حين نهضتُ  من سرير الفحص، التفتُّ إلى صورةِ شخصٍ آخر، في غرفة الطبيب، تكادُ تتدفقُ من وجهه مياهُ العافية وبجنبه كيسٌ مليءٌ بالنقود. 

صورتا فقيرٍ وغنيٍّ أدارتا رأسي، ما هو السّر؟ وكدت أقع، لمّا رأيت الوصفةً عبارةً عن صكٍّ كُتبَ عليهِ مبلغٌ كبير، بالنسبة لي، سينقذني من الإفلاس.

نهضتُ من مصطبةِ الكورنيش، وصرخت:

- هذا الطبيب يوزّع صكوكاً على المرضى، بدلاً عن الوصفات الغالية الثمن، يقول إنّها طريقةٌ أوروبيةٌ اقترحها طبيبٌ كندي، لعلاج مرضى الفقر المزمن.

تجمّع حولي أناسٌ كثيرون، ومن بينهم جليسا المقهى، تناولا الصك، وقال أحدهما: أنظرْ إنّه صكٌّ فعلاً مُجيّرٌ باسمه، ومعنونٌ إلى بنكِ الإعاناتِ الطبيةِ باسم الطبيب الفلاني.

فما كانَ من المتجمهرين إلاّ أن هرعوا راكضينَ إلى عيادةِ الطبيب المذكور. لكنَّ الصكَّ اختفى، ليعودَ صداعي المزمن شامتاَ بي، متسكعاً معي على ضفاف نهر الخيال.