صدام الزيدي
بعد ديوانه الأول «فراغات الوحشة» للبوح بظروفه النفسية المتفاقمة من ضمن اعتراف شعري عبر مواجهة شرسة مع الاكتئاب، يعود الشاعر اليمني، فخر العزب، في كتاب جديد لطرح موضوع الانتماء للمكان والتغني به. عندما طالعنا ديوانه الثاني «كتاب تعز».
وتعز هي المحافظة اليمنية الأكثر تعدادا في السكان والأكثر حضورا في المناشط السياسية والمفاصل الانتاجية اليمنية.
كما انها المحافظة التي ولد فيها الشاعر مهد صباه، ومرتع أحلامه ورؤاه، ومكان اقامته لاحقًا بعد فترة من الزمن قضاها في صنعاء للدراسة وللنشاط السياسي: «لأنها في بلاد الله جنتنا/ وفيها للحياة كفاح/ أطير لها بدون جناح»، كما تقول العبارات الاسهلالية للكتاب.
منذ القصيدة الأولى، يشرع العزب، في كتابة شعرية يمكن وضعها في خانة الكتابة التمجيدية للمكان تاريخًا وموقفًا، أو ما يشبه «أدب الرحلات» شعرًا، حيث المعروف عن «تعز» تموضعها التاريخي المهم في جغرافيا وتاريخ اليمن لتوسطها خاصرة البلاد ولكونها مثلت ملتقى الشطرين الشمالي والجنوبي -فيما قبل إعلان الوحدة في 22 مايو/ أيار 1990- وما لعبته من دور مهم في سفر التاريخ اليمني، حيث طلائع الثوار ومدائح المتصوفة ولحن الصمود، على طريق اليمن الموحد المزدهر المعطاء.
فتعز هي «مثل الجميلة في تدللها/ من أعين الحساد تحترزُ»، وتلك بداية أولى في محفل زهو الشاعر بمدينته وعبق تاريخها على سفوح العشق للوطن.
ويواصل الشاعر التغني بمجد المدينة وبواكير اشراقاتها في خضم فترة الانطلاق الثوري السبتمبري وصولًا إلى الاستحقاقات الوطنية والتفجرات الثورية لا سيما ثورة 11 فبراير/ شباط 2011، التي كان لتعز صولة وجولة فيها وهي تصدِّر البيانات والفعاليات الشبابية المنخرطة في صفوف التغيير.
لكن القصيدة الشعريّة ستذهب بنا بعيدًا عن تمجيد المكان وسرد حضوره في المشهد اليمني إلى حالة من التغزل والافتتان بالمكان وتجليات شخوصه لا سيما الجنس اللطيف حيث المدينة «كأنّ على جوانحها تصلّي/ حشودٌ من جميلات الصفاتِ».
وتأخذنا القصائد الشعريّة إلى فضاءات من السمو والكبرياء لدى شاعر أراد أن يكتب تاريخ مدينته على طريقته الشعريّة، مؤرخًا لكثير من مراحل تطور الحياة فيها غير متجاوز لمحطات التخلق الثوري الممهدة لبناء الدولة اليمنية الحديثة التي بزغ فجرها في الـ 26 من سبتمبر/ أيلول 1962، حيث كان تعز شرارتها الأولى وقوافلها الثورية ما زالت تتردد في الذاكرة الشعبية: «مدينتنا التي كم أرضعتنا/ خصالُ الكبرياء مع الثباتِ/ فأينع فوق تربتها وفيها/ كثيرٌ من صناديد الأُباةِ/ وشبّ الثائرون على ثراها/ كما شبّت قلوب الثائراتِ».
يتضمن الكتاب 46 قصيدة، وهي في معظمها «قصائد تفعيلة»، وهو الخط الذي اتخذه الشاعر فخر العزب في مضمار اشتغالاته الشعريّة علمًا أنه ينتمي إلى جيل واسع من الشعراء الذين كتبوا القصيدة في ما بعد العام 2000، في اليمن، فريق منهم ظل متمترسًا على خطى أسلاف بعيدين يكتب الشعر العمودي متماهيًا في صورة الحياة اليمنية القاسية وشبه الكلاسيكية، وفريق نزع إلى تفجير طاقاته الكامنة ليتجاوز الكتابة التقليدية إلى كتابة أجدّ ضمن قصائد نثر ونحو ذلك من فروع الكتابة الشعريّة المعاصرة، ليبقى فخر العزب ومعه ثلة قليلة جدًا في حدائق الكتابة المموسقة متشبثين بحالةٍ وسط هي كتابة التفعيلة.
ينقسم الديوان إلى ثلاثة أجزاء؛ الأول يتناول ملامح من «تعز» المحافظة والمدينة على السواء، مقتربًا من تعز الأنثى، وتعز الدهشة، وتعز المنارة، والمشغل السياسي المنفتح على كل التيارات الوطنية والمتماهي في مسيرة التحديث اليمنية، عبر قصائد تستعيد مجدًا قديمًا وتتغنى بمدينة ما تزال هي «مدينة الهوى» و»شمس المدائن» اليمنية، صمدت كثيرًا في أعتى الظروف والفترات وكان لها نصيب كبير من الخراب والتشظي على إثر الحروب الأخيرة الممتدة منذ مارس/ آذار 2015: «سندخل نحو بهاء المدينة/ نبحر فيها/ سنبحثُ عن دهشة الانبلاج/ بأفيائها/ قبل الأفول/ ونبحث عن نشوة الفجر/ بين شعاع الشموس/ إذا ما أتت باخضرار الحياة/ بكل الفصول/ ونبحث بين مواويل راعيةٍ في الجبال/ عن الوجدِ شوقًا/ وعن زغردات العصافير/ فوق الغصون الخميلة/ بين الحقول».
ثم ينتقل الشاعر ليتغزل بتعز السياحة والتاريخ والجمال متوقفًا في قصائد منفردة أمام مزارات وأماكن وقلاع ومتنزهات ومساجد لطالما ذاع صيتها ليس في تعز وحدها وإنما في كل البلاد اليمنية، حيث نقرأ عناوين مثل: قلعة القاهرة، الأشرفية، جبل صبر، جامع الجند (أهم مساجد تعز بناه الصحابي معاذ بن جبل) لوكندة المحبة، لوكندة وهران، باب موسى، شجرة الغريب، الشنيني، منتزه السكون، وادي الضباب، والأخير من أروع أودية تعز خضرةً وجمالًا: «من تهاويمِ الصباح/ الشمسُ تشرقُ/ بالحفاوة والصدى/ وتمدُّ عينيها لتلقي نظرةً نحو الطبيعة/ إذ ترى الغيل/ يشق طريقه في قلب وادٍ/ اسمه وادي الضباب».
وفي الجزء الثالث والأخير من الكتاب، يأخذ الشاعر على عاتقه، كتابة مدونة لتعز يعرِّف بأعلامها ونجومها من فنانين ورسامين وشعراء ومناضلين وثوار، كما فعل في الجزء الثاني مع تعز المكان متمثلًا في متنزهات وقلاع ومساجد وأودية ومزارات طبيعية. «غريبٌ في بلاد الله».
وهنا سنقرأ قصائد نتعرف فيها على أهم الأسماء من نجوم الفن والابداع والتغيير الذين قدمتهم تعز لليمن وللعالم، مثل: عبد الغني مطهر، رباب، وهي بائعة قات ذاع صيتها في تعز. هاشم علي، وهو أحد أهم رواد الفن التشكيلي اليمني. علي مدَره أشهر بائع فول في المدينة. الفضول عبد الله عبد الوهاب نعمان، وهو شاعر كبير وكاتب كلمات النشيد الوطني اليمني. قشنون، أيوب طارش أحد أشهر فناني الأغنية اليمنية. عدنان الحمادي. أحمد بن علوان المتصوف اليمني الكبير. جباح، عبد الحبيب سالم مقبل. الشبزي، دحباش شخصية درامية يمنية ذاع صيتها قبل سنوات ضمن مسلسلات رمضان، جسد الشخصية الفنان التمثيلي آدم سيف».
ويعد «كتاب تعز» لفخر العزب، بمثابة مدونة شعرية تكتب تاريخ واحدة من أهم وأكبر المحافظات (والمدن) اليمنية، وأكثرها تأثيرًا في فعالياته ومراحله الوطنية، تمجد مناضليها وثوارها وتستذكرهم، وتدون ملامح من دهشة المكان بتنوعاته السياحية والتاريخية محتفيةً بأهم الأعلام والنجوم من أبناء تعز، مثل الفنان الكبير أيوب طارش: «القرويّ الحزين الذي يسهر الليل/ تُبكيه أشواقه الذابلات/ ويبكي مع مقلتيه القمر».
والمتصوف الشهير، أحمد بن علوان: «غريبٌ في بلاد اللهِ/ طيفٌ زائرٌ/ ويغادر الأصقاع/ جاءَ ليغرس الأضواء في الأرواحِ/ حتى تنتشي بالنور».