ناشرون عرب: أين وزارة الثقافة ممَّا يحدث في العراق؟
صفاء ذياب
منذ أكثر من أربعين عاماً، لم يشهد العراق ترويجاً للكتاب كما شهد بعد العام 2003، فبعد أن كان الكتاب نادراً، لأسباب عدّة، من أولها عدم وجود دور النشر العربية وارتفاع أسعار الكتب، لاسيّما في التسعينيات، اضطرّت المكتبات العراقية لشراء نسخ مفردة من بيروت والقاهرة وغيرهما، واستنساخ الكتاب ليكون بمتناول يد القارئ. غير أنَّ هذا (الاستنساخ) توقّف بعد تمّكن المكتبات العراقية من الاستيراد بشكل مباشر ومن دون قيود، خلال السنوات التي تلت سقوط النظام السابق.
إلاَّ أنَّه في السنوات الأولى التي جاءت بعد التغيير لم يقم أيّ معرض دولي في العراق، وصولاً إلى العام 2012، وحتّى العام 2013 حينما كانت بغداد عاصمة للثقافة العربية، لتبدأ بعدها سلسلة المعارض. وعلى الرغم من أنَّ قيام المعارض في العراق كان مدعاة سعادة للقارئ، إلَّا أنَّ ما حدث بعدها كان كارثياً بالنسبة لدور النشر العراقية والعربية والمكتبات عموماً، فمن غير المعقول لبلد واحد أن تقام فيه أكثر من سبعة معارض، كلّها دولية، ما أدّى لتشتّت القارئ وعزوفه عن اقتناء الكتاب الذي أصبح متوفراً في كلِّ شارع وزقاق، لاسيّما بعد انتشار مافيا تزوير الكتب التي لم تفعل كما فعلت المكتبات في تسعينيات القرن الماضي، من استنساخ نسخ قليلة حسب الطلب، بل زوَّرت طبعات كاملة من الكتب، وهذا أسهم بانهيار حقيقي لسوق الكتاب في العراق.
الأهم من هذا كلّه، أنَّ الحكومة العراقية بشكل عام، لا وزارة الثقافة، ولا السيطرة النوعية، ولا حقوق المؤلف والناشر، لها وجود، فعلى الرغم من تعاقب وزراء ثقافة خلال العشرين عاماً الماضية، غير أنّه لم يلتفت أيّ وزير لمعارض الكتب، ولم تتحرك الوزارة لإقامة معرض حقيقي واحد يعيد للكتاب العراقي والعربي هيبته في العراق...
عبء ثقافي
يقول الناشر بلال ستار البغدادي، مدير دار سطور ونائب رئيس جمعية الناشرين والكتبيين العراقيين،: إن هذه الظاهرة برغم ما تبدو عليه من إيجابية، إلَّا أنَّها تخفي في طيّاتها العديد من الآثار السلبية. فمن ناحية اقتصادية، تُشكّل كثرة معارض الكتاب عبئاً على دور النشر العربية والعراقية، إذ تُجبرها على المشاركة في العديد من المعارض خلال مدّة زمنية قصيرة، ما يتطلّب منها تكاليف باهظة للنقل والإقامة والتسويق. هذا فضلاً عن قلّة المبيعات التي تؤدي للخسائر المالية.
وعلى الصعيد الثقافي، تُشتّت كثرة المعارض اهتمام القارئ، وتجعله غير قادر على متابعة الفعاليات كلّها، ما يُفقد المعارض هدفها الثقافي، ويحوّلها إلى مجرّد فعّاليات تجارية. إذ تفتقر غالبية معارض الكتاب إلى المناخ الثقافي الحقيقي، مركّزةً على عرض الكتب التجارية من دون الاهتمام بالكتب الثقافية والفكرية. ويزداد الأمر سوءاً مع غياب دور الجهة المعنية وزارة الثقافة في تنظيم معارض الكتاب، ممَّا يُفقدها قدرتها على التحكّم في هذه الظاهرة.
ويضيف البغدادي أنه لمعالجة هذه الظاهرة، لابدَّ من تدخّل الجهات المعنية، لاسيّما وزارة الثقافة، لوضع حدٍّ لهذه الظاهرة، ووضع خطة تنظيمية تُحدّد أهداف معارض الكتاب، وتُراعي احتياجات القارئ، وتُحافظ على المناخ الثقافي الحقيقي. فضلاً عن دعمها لدور النشر العربية والعراقية، ومنع الجهات المتنفّذة من استغلال معارض الكتاب لأغراض سياسية أو طائفية.
حقل ألغام
ويعتقد الناشر السوري أيمن الغزالي، مدير دار نينوى، أنَّ المشكلة ليست بعدد المعارض، بل تكمن بآليات صناعة وترويج الكتاب أولاً وتنتهي بالقارئ. فمن جهة إنتاج الكتاب ومشكلات التوزيع التي تواجه الناشرين، فعدد دور النشر وعدد الإصدارات يزيد باضطراد، لذا أصبح القارئ أمام كمٍّ هائل من الإنتاج والدعاية التي تخترق حرماته في كلِّ وقت وبالوسائل كلّها عن كتب جديدة وطبعات فاخرة، فأصبح من الصعب مواكبة هذا الكم الهائل من الإصدارات.
مضيفاً: الحروب والكوارث التي تمرُّ بها المنطقة من سنوات طويلة جعلت من الصعب بمكان ما الشعور بالاستقرار المكاني والمادي الذي يجعل من اقتناء الكتب مسألة مهمّة ولاسيّما أنَّ العربي بالأساس يرى الكتاب حاجة كمالية وليست أساسية... وأهم سبب هو غياب الروح الثورية عند الإنسان العربي الذي ارتبط الكتاب والمطالعة بالشعور الثوري ضدَّ العادات والتقاليد والركود السياسي والفكري وظهور أيدولوجيات مرتبطة بالفكر وحركات التحرّر الوطني. هذا كلّه جعل من الكتاب موضة وليس حاجة في ظروف صعبة ومعقّدة يصعب الآن تحديد الأسباب والنتائج والمعالجة.
ومن أخطر المشكلات التي تواجه النشر والتوزيع هو حقل الألغام الفكري والأيديولوجي الذي نعيشه، الذي استبدل كتاب النقد والفكر بكتاب التنمية البشرية والرواية، بمعنى أّنه استبدل المفهوم إلى خانة الاستهلاك. والخطر الحقيقي يكمن في مهنة النشر والقائمين عليها والشللية والحرب الباردة والمنافسة التي لا ترقى إلى مستوى المهنة، وأسعار المعارض والتكاليف الموازية التي أصبح من الصعب تحمّلها، لهذا اضطرَّ الناشرون لرفع سعر الكتاب الذي لم يعد مناسباً لدخل الفرد العربي.
سيولة نقدية
ويرى الناشر المصري محمد البعلي، مدير دار صفصافة، أن معارض الكتب تعدُّ بصفة عامّة ملتقيات ثقافية مهمّة للثقافة العربية وجسراً للتواصل بين القرّاء والكتّاب والناشرين، وعلى مر الأعوام تحوّلت معارض الكتاب الدولية في أغلب الدولة العربية إلى كرنفالات لمحّبي الكتب وعيد للثقافة والمثقفين، ولم يكن العراق بعيداً عن تلك الأجواء منذ سنوات طويلة.. ولكن في السنوات الأخيرة طرأت على سوق الكتاب العراقي ظاهرة جديدة، وهي تحوّل العديد من المعارض المحلّية إلى دولية يصاحب ذلك استقدام أعداد كبيرة من الناشرين غير العراقيين ولاسيّما المصريين منهم، مع تضارب في مواعيد تلك المعارض وتواتر زمني قريب أصاب السوق بتخمة في المعروض من الكتب وأثَّر مع- انتشار الكتب المقرصنة- على سوق الكتاب بصفة عامة، ومع تزايد عدد المعارض وتنافسها لجأت إلى تخفيض معايير الاشتراك بها وأصبحت تقبل أيّ ناشر تقريباً بغضِّ النظر عن جدّيته ومستوى مطبوعاته، ما أدّى إلى طرد الناشرين الجادين من تلك المعارض (فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيّدة من السوق)، كما أنَّ رغبة بعض الناشرين في تعويض خسائرهم من تلك المعارض جعلهم يتجهون إلى ما يسمّى “حرق الأسعار”، أي البيع بدون مكسب تقريباً لجمع تكلفة المشاركة أو العودة من المعرض بأيّة سيولة نقدية..
ويضيف البعلي: بناءً على ما أتابعه فإنَّ هذه الظاهرة لن تتوقف طالما أنَّ القائمين عليها يحقّقون منها المكاسب، وأنَّ على المؤسسات المعنية بالثقافة وأنشطة المعارض أن تبدأ في التدخّل لتطوير هذا الوضع بما يفيد سوق الكتاب العراقي بمختلف أطرافه أولاً، ويعيد لبغداد معرضها الوطني أسوةً بباقي الدول العربية، فعلى وزارة الثقافة أن تتولّى تنظيم المعرض الوطني في العاصمة بشكل يليق بتاريخ وثراء ثقافة العراق وأن تكون باقي المعارض إمَّا محلّية للناشر العراقي حصراً أو نوعية، إذ يكون هناك معرض للكتاب الديني مثلاً ومعرض للكتاب الأكاديمي الخ، وأظنُّ أنَّ مثل هذه الخطوة ستمثّل دفعة للأمام لسوق الكتاب العراقي.
أين الدولة؟
كما يقترح الناشر الأردني مهند الحلوة، مدير كنوز المعرفة، تنظيم معرض دولي واحد في بغداد، فضلاً عن معارض محلّية في الشمال والجنوب، وتتحد الجهات ذات الصلة والمهتمين بالثقافة العراقية لتنظيم معرض يكون على مستوى المعارض العربية الأخرى، ممَّا يُسهم في رفع مستوى هذه الفعاليات وجعلها مثمرة أكثر للناشرين.
ويحدّد الحلوة بعض المؤشرات التي يمكن أن تُسهم بإنجاح المعارض في العراق، منها جذب الناشرين الرئيسين، وتحديد عدد التوكيلات لكلِّ دار إذ لا يصبح المعرض للمكتبات ودور التوزيع. وتعزيز التنسيق الحكومي، إذ يجب أن يلعب الجهاز الحكومي دوراً فاعلاً في تنظيم المعارض الدولية للكتاب، من خلال توفير الدعم المالي والتنظيمي اللازم، وتشجيع التعاون بين الجهات المختلفة لتحقيق أهداف مشتركة. وتقنين أسس تنظيمية محدّدة من قبل وزارات التجارة والثقافة والتربية والتعليم وتعزيز الرقابة والمعايير الصارمة، بما في ذلك تحديد شروط المشاركة ومراقبة جودة الكتب المعروضة، وفرض عقوبات على المخالفين.
فضلاً عن الترويج والتسويق الفعّال الذي يكون من خلال استخدام وسائل الإعلام المختلفة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والشراكات مع الجهات ذات الصلة. وتنظيم فعاليات مصاحبة متنوعة لجذب أكبر عدد من الزوّار وتوفير تجربة متكاملة. كما ينبغي أنَّ يُخطّط للمعارض الدولية بشكل مسبّق ودقيق، بما في ذلك تحديد الأهداف والجمهور المستهدف والمشاركين المرغوب فيهم، وضمان توفير مجموعة متنوّعة وجودة عالية من الكتب المعروضة.
والأهم مما سبق تنسيق المواعيد في العراق بشكل متَّسق ومدروس، لتجنّب التضارب بين المواعيد والتداخل الزمني الذي قد يؤدّي إلى تشتيت الجهود وتقليل فعالية المعارض. وتشجيع الابتكار والتميُّز على تقديم عروض وفعاليات مبتكرة ومميّزة تجذب الزوار وتُسهم في رفع مستوى الجودة والتنوع في الكتب المعروضة.
ومن ثمَّ يعتمد النجاح في تنظيم معرض الكتاب الدولي على الجهود المتكاملة في التخطيط، والتنظيم، والترويج، وتقديم تجربة مثيرة ومميزة للزوار والمشاركين.
انفتاح غير مدروس
من جانبه يوضح خالد الدعيبس، مدير دار الروافد الثقافية في لبنان، أن العراق لم يشـهد انفتاحاً على استيراد وتصدير الكتب مثلّما شـهدَ بعد العام 2003، مرَّ قطاع النشر العراقي بمراحل عديدة منذ ظهور الطباعة، وبدأت دور النشر العراقية بالانتشار رويداً رويداً حتَّى باتت تملأ العالم العربي مع انتشار المعارض في العراق إذ يقام معرض كلّ شهرين بالعراق، جميعها خارج رعاية الدولة أو وزارة الثقافة التي هي الأحق بتنظيم معارض الكتب في الدولة في الأقل معرض أساسي كما تجري الحالة في المعارض العربية. وبرغم من أنَّ دور النشر العراقية الخاصة أسهمت بشكل فعّال في نشر الكتاب العراقي بالعالم العربي، ولكنَّها فشلت في إقامة معرض للكتاب دولي يليق بمكانة العراق.
لهذا هناك خطوات يتمنّى الدعيبس اتخاذها في العراق:
أولاً: قرار سريع من وزارة الثقافة العراقية بدعم الناشر العراقي وتنظيم عملية معارض الكتب المحلية والدولية بإشراف الوزارة دون سواها.
ثانياً: دعم مؤسّسات رصينة تهتم بالنشر والطباعة ونشر الثقافة والمعرفة، دافعها الإيمان بقيمة الدور المناط لها أكثر من أن تكون الغاية ربحية مالية فقط، فللأسف هناك مؤسّسات أقفلت لعدم قدرتها على الصمود أمام نفقاتها، فالمنفعة الشخصية سيطرت على دور المؤسسة ما أدّى إلى إغلاقها وفشلها. برغم ذلك لن ننسى بأنَّ هناك محطات نور وأمل أسهمت في تنشيط قطاع الصناعة والنشر.
القارئ والكتاب
ويؤكّد الناشر الكويتي فهد الهندال، مدير دار الفراشة، أنّنا بحاجة ملحة لإعادة النظر بوضع معارض الكتب العربية حالياً، فلا يمكن أن يستمر الوضع بهذه الطريقة منذ تأسيس المعارض، بعرض الكتب سواء الجديدة أو المطلوبة أو التي تمَّ نشرها سابقاً بدون طلب عليها، وكأنَّنا أمام واقع عام (عرض دون طلب)، وإن كان فعلاً فنحن في مأزق كبير!
ويعتقد الهندال أنَّ المشكلة لا تكمن فقط بزيادة المعارض الدولية أو المحلية في البلد الواحد، ولا بزيادة أعداد الناشرين المشاركين في المعرض الواحد، ولا باختلاف هُوية الناشر الواحد، وإنَّما تلتقي كلّها مع شعور القارئ بأنَّ الكتاب متوفّر على مدار العام بفضل المكتبات بدون الحاجة لانتظار المعرض السنوي، لتلتقي الأسباب السابقة مع أهم سبب لقيام المعارض وهو تشجيع صناعة الكتاب في الوطن العربي.
فوسط تحوّل معارض الكتب إلى مشاريع تجارية تنظمها وتشرف عليها شركات متخصّصة في تنظيم المعارض وليس صناعة الكتاب، بما تفرضه من إيجارات عالية وخدمات مكلّفة وشحن مرتفع التكاليف مع إضافة القيمة المضافة لجانب الضرائب، نجد أنَّ معارض الكتب دخلت في خانة التجارة أكبر منها من ثقافة صناعة الكتب!
المطلوب هو إعادة النظر بعدد من المعارض الدولية في البلد الواحد، والتفريق بين مهنة النشر وبسطة الكتب، وإقامة تعاونات وتحالفات بين دور النشر العربية، وبرامج مهنية ملزمة في كلِّ معرض مع إتاحة فرص تبادل التوكيلات والتراجم الأدبية.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة