الوجوديَّة ضدَّ منتقديها

ثقافة 2024/03/20
...

د. حيدر عبد السادة جودة

 الوجوديَّة مذهبٌ لا ينتمي إليه أحد، وينتمي له كلّ أحد، فباستثناء الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) الذي أعلن وجوديته وبصراحة شديدة، تحديداً في كتابه (الوجودية نزعة إنسانية)، وراح يُفرق ما بين الوجودية الإيمانية التي يُمثلها كل من (كارل ياسبرز وجابريل مارسيل)، والوجودية الملحدة التي يُمثلها هو و(هيدغر)؛ لا نجد فيلسوفاً آخر يجاهر بوجوديته، ولو رجعنا فاحصين هذه الفِرق، سنجد أنَّ كل من ذكرهم سارتر لا ينتمون إليها كمذهب، وإنما قد يندرجون تحتها كنظام معرفي... وكعادتها كالمذاهب الأخرى، تعرضت الفلسفة الوجودية لجملة كبيرة من الانتقادات، عمل سارتر على الدفاع عنها وتشذيب الأقوال الخاطئة فيها، تحديداً بعدما أعلن عن تحوّل الوجودية إلى مجرد موضة.

وفي هذا المقال نُحاول أن نتتبع بعض الاعتراضات التي سيقت في سبيل التقزيم من النتاج الوجودي في الفلسفة والقيم، وسنعرض لها كما دافع عنها الفيلسوف الوجودي (جون ماكوري)، ومن جملة ما تقدم للوجودية من انتقادات هو كون الأخيرة ذات اتجاه لا عقلاني.
 ويردُّ ماكوري على ذلك فيقول: إنه لو صحت هذه التهمة لامتنعت عن الوجودية صفة الفلسفة، ذلك لأنَّ الفيلسوف لا بد أن يكون، بالتأكيد، رجلاً يصغي إلى صوت العقل ويسمح له بأن يكون مرشداً، فهو محبٌ للحكمة كما يقول التعريف ذاته... لكن ماكوري ينبه على أنَّ عقلانية الفيلسوف لا ينبغي أن تعني عدم انشغاله بأمور البشرية، أو محالته أن يصبح مجرد مشاهد للمسرح البشري بدلاً من أن يشارك فيه.
وما هو صحّي وسليم في معارضة الوجودية للعقلانية ليس هجوماً على المنطق ولا إعلاؤها من شأن العبث، إذ الواقع أنَّ هذه سمات خطرة وسلبية ينبغي أن نقاومها باسم العقل، لكن ما هو صحيح هو إصرارها على أنَّ هناك جوانب غنية كثيرة في الوجود البشري، ينبغي ألّا نتجاهلها أو نحط من شأنها لمجرد كونها لا تتناسب مع مقتضيات منطق الرياضيات أو منطق العلوم التجريبية، وليس في ذلك إدانة للمنطق ولا ترويج لفوضى عقلية، في أفضل الأحوال، محاولة لتطوير منطق للأشخاص يضاف إلى منطق الأشياء الذي نعرفه.
ومن المخالفات التي أُخذت على الوجودية، عدم اهتمامها بالأخلاق.
 يقوم هذا النقد أو الاتهام لما سببه أشخاص من الوجودية باعتناق أو التبشير للأحزاب الراديكالية، تحديداً ما نُسب لهيدغر في ارتباطه بالنازية، والحقيقة أنَّ من الجائز أن يُعزى ارتباط هيدغر بالنازية إلى السذاجة السياسية التي لم يقع فيها هو وحده بالتأكيد، في أول الثلاثينيات، ولكن هل كان في الأمر ما هو أكثر من ذلك؟ هل يمكن أن نجد جذور هذا الارتباط في نفور الوجودية من الاعتراف بمكانة المعايير في الحياة الأخلاقية، وفي أنَّ تأكيدها لضرورة أن يكون المرء صادقاً مع نفسه دون اعتبار لما يمكن أن يؤدي إليه هذا الموقف؟ يقول ماكوري: إنَّ هذه المسائل تنطوي على جوانب عديدة غامضة ومتعارضة، وأعتقد أنَّ سجل هيدغر الشخصي يمكن الدفاع عنه بأكثر مما يريد لنا بعض نقاده أن نصدقه، وفضلاً عن ذلك، فهل يستطيع أحد أن يلوم نيتشه بسبب الظاهرة النازية؟.
من جهةٍ أخرى يؤخذ على أنَّ الفلسفة الوجودية مصابة بداء النزعة الفردية إلى حدٍ غير مرغوب فيه. أو أنَّ الوجودية نزعة ذاتية.
 ويحاول ماكوري في ردّه على ذلك أن يبرز مفهوم الهوية الفردية، فيقول: كما كان الحكم الفردي والمسؤولية الفردية يقعان في خطر الاختفاء نتيجة لطغيان ضرب لا شخصي من المذهب الجمعي، فمن الضروري أن نؤيد حقوق الفرد، وفضلاً عن ذلك فما دامت الموضوعية التامة واستقلال الرأي الكامل في الفلسفة يبدوان وهماً وأسطورة، فإنَّ من واجب الفيلسوف أيضاً أن يعترف بأنَّ له وجهة نظره الخاصة وموقفه التاريخي الخاص، ومن ثم أن يعترف بأنَّ هناك عاملاً شخصياً في تفلسفه.
كما أنَّ هناك من يذهب إلى أنَّ نظرة الوجودية للإنسانية بالغة الضيق.
 في الوقت الذي ينطبق هذا القول على ما تقدم به سارتر حول نظرته للإنسانية، إلا أنه لا ينطبق، وبنفس الوقت، على الأنطولوجيا والميتافيزيقا الوجودية، فعلى الرغم من أنَّ هيدغر في دراسته (موجز حول النزعة الإنسانية)، يميز تمييزاً قاطعاً بين موقفه وموقف سارتر، ويذهب إلى أنَّ اهتمام فلسفته يتركز في الوجود العام، وليس في الوجود البشري، غير أنه ليس لديه إلا القليل مما يقوله عن الطبيعة والواقع غير البشري بصفة عامة، وإنه لم يبدِ سوى تقدير ضئيل للعلوم الطبيعية.
 والخطر من فلسفة تحصر نفسها في التمركز حول الإنسان، لا يكمن في أنها تقدم لنا فهماً أنثروبولوجياً جافاً للواقع فحسب، وإنما في أنها قد تنعكس بشكلٍ ضار على الإنسان ذاته، ذلك لأنه عندما يعزل الإنسان بوصفه مركز الاهتمام، وعندما يفهم الكون على أنه، مسرح الحياة البشرية، وميدان انتصار الإنسان واستغلاله، فإنَّ ذلك يعطي دفعة قوية لتلك الاتجاهات المؤسفة التي أصبحت الآن مشكلة رئيسة، تلوث الماء والهواء، الآثار الجانبية غير المتوقعة للتكنولوجيا.
 أما الانتقاد الشائع فيتمثل في كون الوجودية فلسفة متشائمة، بل هي فلسفة مرضية.
وبالحقيقة فإنَّ هناك بعض الحق في هذا الاتهام، ولكن على كل الأحوال، إنَّ هذه الانتقادات متأتية من قبل مجموعة من المتفائلين السطحيين الذين انتقدهم الوجوديون لإخفاقهم في تقدير مآسي الحياة... وحتّى لو سلّمنا بأنَّ الوجوديين كانوا سلبيين في تقديرهم لما يجري في عالمنا المعاصر، مع ذلك يظل علينا أن نعترف بأنهم أشاروا إلى شرور وأخطار حقيقية، ولولا انتقادهم لكنا نفتقر إلى الكثير.
وعلاوةً على ما تقدّم فإنَّ للوجودية كأي فلسفة أخرى، جوانب ضعفها، وجوانبها السلبية ومبالغاتها، لكن بالأخير فإنَّ حسنات هذا الضرب من الفلسفة يفوق سيئاته، فقد أعطتنا الوجودية الكثير من الاستبصارات الجديدة والعميقة حول سر وجودنا البشري الخاص، وأسهمت بذلك في حماية إنسانيتنا وتدعيمها في مواجهة كل ما يتهددها في يومنا هذا، ولقد قدّمت معياراً نستطيع بواسطته أن نفسر أحداث عالمنا المعاصر المحيرة وأن نقومها.
ويقول ماكوري: لا أستطيع القول بأنني أدين بأي صورة من صور الوجودية، بل لقد ظهر بوضوح من مناقشاتنا، أنني أود أن أعدّل أو أوسّع أو أغير، من الطريقة الوجودية في التفلسف في نقاط تبلغ من الكثرة حداً قد لا يمكن معه أن تظل النتيجة وجودية بالمعنى المتعارف عليه، ومع ذلك فسوف أظل أقول إننا نستطيع أن نتعلم من الوجودية حقائق لا غنى عنها لوضعنا الإنساني، حقائق قد لا تستغني عنها أي فلسفة إنسانية سليمة في المستقبل.
 وفي الختام نقول: نجح الوجوديون في تشخيص العلل التي قد تؤثر سلباً في معالم الظاهرة الوجودية، وقد أفلحوا في تغييره وتبديله لمعالم هذه الفلسفة حينما جعلوها- تحديداً جون ماكوري- أسلوباً في التفلسف رافضاً النزعات الجمعية والمذهبية فيها، محاولاً تقديمها على أسس مشتركة من جهة، ومختلفة من جهة أخرى، وما يحسب لماكوري، فضلاً عما تقدم، تأصيله التاريخي لهذه الطريقة من التفلسف، فد عزاها إلى مرحلة الأسطورة، بل إلى بزوغ فجر التفكير البشري، مع أنَّ لنا موقفنا من ربطها بالحركة المتمثلة بالمسيح والقديس بولس، وما يبرر ذلك، تبعاً لماكوري، خلفيته الدينية والكنسية المسيحية.