سامر المشعل
في خطوة غير مسبوقة أقدم عليها الفنان ناصر حكيم بشراء مقهى له وسط العاصمة بغداد، وهي حالة تعد غريبة آنذاك بالنسبة للريفيين القادمين من الجنوب، فعادة ما يكون الريفي فقير الحال ويشعر بقرارة نفسه، بالتهيب من اقتحام عوالم العاصمة، ويسكن في الاطراف ويمارس بعض المهن الرثة والبسيطة. لكن الفنان ناصر حكيم يعد استثناءً، فهو الولد البكر والمدلل للحاج حسين، الذي ترك له مسؤولية ادارة بستان غناء وأراضيَّ زراعية في منطقة " العكيكة " التابعة إلى قضاء سوق الشيوخ في محافظة الناصرية، وتمتاز العكيكة بجمالها الريفي الساحر حيث يلتف نهر الفرات حولها وتضللها أشجار النخيل الباسقة. مع مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، قرر ناصر حكيم الانتقال إلى بغداد والاستقرار فيها، بعدما انقطع حبل الحنين الذي كان يشده إلى الناصرية، عندما زوجت حبيبته " غوية " من ابن عمها، في ذلك الوقت، طلبت منه شركة بيضفون المكوث في بغداد، بعدما ابرم معهم عقد لتسجيل خمس اسطوانات، لقاء كل اسطوانة مئة روبية التي تعادل (750) فلساً.
اشترى ناصر حكيم مقهى له في منطقة علاوي الحلة قرب سينما بغداد، واصبح هذا المقهى منتدى ثقافيا يؤمه الشعراء والمطربون والملحنون.. وملتقى لاهل الطرب والقادمين من الجنوب ومجلسا للغناء وتدارس المقامات والاطوار.. ومن المقهى نشأ الكثير من المشاريع الفنية بين الشعراء والمطربين، الذي كان يرفد دار الاذاعة والذوق العام بالاصوات والمواهب الجديدة.
يرتاد المقهى الكثير من الفنانين منهم: ناظم الغزالي، عبد الامير الطويرجاوي، الشاعر جبوري النجار، حضيري ابو عزيز، داخل حسن، شخير سلطان، بدري الحلي، وجواد وادي.. والاخير تتلمذ على الفنان ناصر حكيم واخذ منه طريقته بالغناء.
يقول الفنان الراحل ناصر حكيم " كان يأتي إلى المقهى الشاعر والاديب جبوري النجار، وكان يواظب على تدريس الفنان ناظم الغزالي. وكذلك عمل على تدريس الفنان حضيري ابو عزيز وداخل حسن". تعقد بالمقهى جلسات طرب وتنطلق اصوات المطربين بالتناوب، يغني المطرب ثم يسلم الغناء للمطرب الذي يليه وهكذا.
كانت الآلة الإيقاعية الوحيدة التي ترافقهم بالغناء هي " الصينية " التي توضع فيها المسبحة ويتم الضرب عليها، فيتجمهر الناس لسماع هذه الاصوات الشجية، وهي تتبارى على بلوغ اعلى درجات الجمال. يوجد في المقهى جهاز "كرامفون"، يستمع اليه الجالسون إلى اصوات المطربين العرب والعراقيين. وكان هذا الجهاز هو الوسيلة الوحيدة للاستمتاع بالغناء قبل مجيء الإذاعة.
ناصر حكيم يعد مدرسة في الغناء الريفي، يمتاز بصوته القوي الشجي الواضح النبرات كثير الترجيفات، وهو شاعر وملحن على الرغم من أنه لا يقرأ ويكتب.. وقد نهل الكثير من المطربين والملحنين من ينبوع ابداعه، فقد اخذ منه الفنان حسين نعمة أغنية "نخل السماوة" وأغنية "فرد عود"، التي اعدها الملحن طالب القره غولي، وكذلك غنى له حسين نعمة أغنية " بروحي وارد اشريج"، واخذ منه الفنان سعدون جابر أغنية "بويه عيوني"، وأغنية "عيني عيني" وغنى له الفنان صباح غازي أغنية " بالراض امش بالراض"، واخذ منه الفنان فاضل عواد اغنية "على الله ويازماني" واغنية "فوك فوك الملامة". وقد اخذت من ناصر حكيم الكثير من الالحان التي تم تغيير كلامها ونسبت لغيره. كان يفترض أن تحافظ أمانة بغداد أو وزارة الثقافة على مقهى ناصر حكيم، كمعلم تاريخي كان يؤمه كبار الفنانين والشعراء، ويظل أرث فنيا وثقافيا وسياحيا للمهتمين بفن الغناء ورواده.