رامية منصور
"يُفتَرَضُ بالفنِّ الحديثِ أن يثيرَ الناسَ ويجعلهم يفكرونَ."
نك كانون
حين تدخل عالمه الخارج عن المألوف تتلقى في كل مرة جرعة من الفرح، وزخمًا من الإدراك، والتماعات جماليّة، وجاذبية مميزة، تستحثها قوة أعمال الفرنسي فرانسوا بارد.
من المستحيل ببساطة ألا تشعر أنك تقف أمام أحد أعظم الرسامين في مشهد الفن الفرنسي اليوم.
نشعر في خضم أعماله وكأننا على كوكب آخر، في عصر آخر، في بعد آخر، بعدٌ سحريٌّ لكنه منقول من الواقع حرفيًا من دون إضافات.
فن مدهش آسر يشعرك بسعادة خفية، ببهجة عظيمة، إنه تأثير العبقرية في استثارة مشاعر غامضة داخلنا تتحرك في انسجام تام مع اللوحات.
تتناول أعمال بارد شخوصًا مجهولين، مجهولين لا لأنك لا تعرفهم ولم تلتقِ بهم في الشارع أو العمل أو مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن لأن فرانسوا بارد أراد لهم بأن يكونوا مجهولين، بإسقاطات ضوء تخفي عيونهم كمن يلبسون نظارات سوداء كبيرة. يحاول الفنان بوسائل مختلفة أن يوصل لنا فكرة مفادها أن كل واحد منا يمكن أن يقع في شباك القدر الذي يحرك عجلة الحياة التي تحوي هذا المزيج من الظروف المتراكمة.
تباغتنا صور النساء المجهولات إما لتظليل وجوههن أو التفاتهن إلى ناحية عكس اتجاه عين المشاهد، وكذلك الحال مع رجال الشرطة أو رجال العصابات، حيث نجد أنفسنا أمام مشهد لحادثة أو أمر ما قد حصل ويبدو أن أبطاله ينتظرون شهاداتنا.
نحن مدعوون للتساؤل، حينما نقف أمام أعمال بارد، عن ماهية حدث اللوحة أهو حدث مأساوي أم عنيف أم صادم أم ملفت للانتباه فقط، وعن هوية الشخصيات المقطوعة والصور المقربة لمقاطع أجساد أناس واقفين أو جالسين مع حيواناتهم أو أغراضهم، ولقطات التتبع البصري الأخرى هي عمليات سينمائية يتخذها فرانسوا كوسيلة مبتكرة لتجاوز طريقة تناول المشاهد الواقعية التي يعود لاستخدامها هنا بشكل غير تقليدي، هذه اللحظات المصورة تولد القلق، وربما الأمل والرغبات، حتى أبسط مشهد يأخذ طابعا غريبا وموترًا للمزاج بشكل مزعج.
حيث يتوقف المشاهد بصمت ليركز في المشهد الذي وجد نفسه أمامه من دون مقدمات.
وسواء أصابت التوقعات موضوع اللوحة الغامض أم لا فإن على المشاهد انهاء توقفه ومغادرة المشهد. فيما تبقى ابتسامة الفنان، المرسومة خلف تصاويره، تسخر من غرورنا واستسلامنا لفضولنا.
إنه هنا وبسابق ترصّد يؤكد بأنه لا يريد من المشاهد أن يكون عنصرًا محايدًا بل جزءًا من العمل الفني، يأخذ على عاتقه هذه المهمة، ليصبح بطلاً داخل اللعبة غير الراغب فيها أو غير العارف بكونه صار جزءًا فاعلاً فيها.
إن الحوار بين المشاهد وأعمال بارد ستغرقه أكثر في الارتباك والأسئلة مقابل حصوله على إجابات قليلة وسط هذه المشاهدة القاتمة الجميلة.
يمكن أن يكون بطل أعمال فرانسوا بارد هو المشاهد نفسه، بطل فريد من نوعه لأنه يفتقر إلى أي قدرة فنية ذاتية أو قدرة حقيقية على حل ألغاز أعمال بارد التي لربما لن تكون لها حلول من الأصل.
أعمال فرانسوا منفذة بواقعية متقنة بيد أنها لا تنتمي للواقعية المفرطة لأنها تبتعد عن الدقة الفوق تصويرية وهي تخلط بين الحقيقي والخيالي في قالب درامي مشفّر مع ذلك فإن بارد وعلى نسق الواقعيين المفرطين، يعمل على الصور الفوتوغرافية التي التقطها بنفسه، لكنه لا يخضع نفسه لقوانين التصوير الفوتوغرافي بل لاحترافية الرسم والتلوين.
في الختام من المناسب أن نتذكر قول الناقد الإنكليزي كلايف بيل: "يجب ألا نتذوق أو نقيم العمل الفني من وجهة نظر اهتماماتنا الشخصية أو اعتقاداتنا أو عواطفنا أو تحيزاتنا الثقافية، بل من وجهة نظر العمل نفسه وبناءً على الصفات أو الكيفيات الكامنة في الشكل الدال.
فالشكل الدال وحده هو أساس الخبرة الجمالية ومصدرها. وبعبارة أخرى، علينا أن نتذوق العمل الفني موضوعياً، من ذاته ولأجل ذاته".