أنثروبولوجيا المجتمعات وتدوير أنساقها

ثقافة 2024/03/25
...

  ميثم الخزرجي

الواضح والمعني في تمثلات الإنسان ومتبنياته الايدولوجية ومعتقداته الإثنية هو الإيمان المطلق بها، بغض النظر عن منسوب وعيه وحصافة قراراته الناتجة عن هذه المتبنيات والمقدر لها أن تخرج بهذه الصورة، وهنا يكون للوعي سلطة مشيدة بثقافات عديدة تصيّره، لأن ينزع نحو هذا الرهان من عداه، على الرغم من مدى نباهة آرائه وفطنة محتواها لكنها تبقى بحسب معياره صائبة، ولعلنا ننظر إلى طبيعة الأديان والمذاهب الإنسانية، بل حتى الاتجاهات المعرفية التي اعتنقها ليكون مدافعاً عنها بحسب مسوغات جاءته عن قناعة تامة.

 وقد يصل هذا الصراع الجدلي إلى التبشير بسعة أفق هذه الرؤى تبعاً لشروحات نظرية مهمة تعنى بالدرس والبحث أو انتهاج مبدأ التحشيد والتحريض للدفاع عن أهدافها ولعلنا نلاحظ أن التاريخ الإنساني والفكري حافل بفصول كهذه، وقد لا نجد حقبة زمنية خالية منها، لكني هنا أتوقف عند تعرية هذا المفهوم وإظهاره بوصفه كشفاً قيمياً يُنظر في محتواه حيال هذا الأوان المتداخل بالصوت واللون والصورة.

بطبيعة الحال، أجد أن العتبة الأولى لتشكيل هوية الإنسان المعرفية والاجتماعية وتسمية نظامه القيمي بصورة جلية وصياغة أنساقه الكلية وتحديد فاعليته هي البيئة باعتبارها مرحلة رائدة في تهيئة وعيه، وما يتخللها من تفاصيل حيوية تعنى بالطقس والطبيعة والتي بدورها تنعكس سلباً أو إيجاباً على طريقة تصرّفه وعلاقته بالآخر واستجابته لكمّ القرارات التي تعنى بسياق حياته وماهية التعاطي معها. لذا فإن توصيف انثروبولوجية المجتمع يخضع لاستقراء نهم يكون مؤداه تحليل كنّه الفرد ودراسته امعانا لسلوكه المكتسب من محيطه وما يترتب على هذا السلوك من ثقافات ناشئة تهيُّئه على أن يكون بهذه الحلة، العامل الآخر هو التأثر الناجم عن واقعه أو من واقعٍ خارجٍ عن منظومته الاجتماعية ليحمل سماته ويتلقى أعرافه وينهل من عاداته لينهض فرداً مغايراً بمزايا مختلفة عن مزايا محيطه الذي نشأ فيه على الرغم من قلّة حيلة هذا التغيير لكنه يبقى سمة مضافة لكمّ السمات التي تعنى به لترمّم شخصيته.

واقعاً، أن قراءة طبيعة المجتمع وما يكنّه من صفات ميزته عن أخرياتها من المجتمعات بحاجة إلى تحليل جاد وتفكيك منصف لبيان محتواها الثقافي والمعرفي وتشريح مضمراتها على وفق ما يفد من أنساق دخيلة لمواكبة التطور الحاصل في بنيتها ودراسة سلّمها المفاهيمي والقيمي حيال هذا الطقس المعلوماتي، لعل من يسأل، هل أن الأنساق المتوارثة مؤهل ناجع للحفاظ على ملامح السمة وإبقائها حية؟ هل ما زالت السلطة النسقية حصناً متيناً للحفاظ على مزية المجتمع وهيئتها التي تعرّف بها؟ وهنا إشارة إلى الواقع المعيش بجميع لبوساته.

حقيقة الأمر.. علينا أن نؤمن إيمانا مطلقاً أننا نعيش في عالم الكتروني يدار بالصوت والصورة ذات التقنية العالية التي وظفت كثيراً من الرؤى العلمية ومكنتها من الواقع وقربتها من عقول أفراده بدءاً من الهواتف الذكية وليس انتهاءً بالروبوت الآلي وتأهيل أفكاراً قادمة تتدخل في حياة الإنسان والتأصيل لمراحل قادمة بحسب ما تتناقله الوكالات العالمية والمؤسسات الأكاديمية العلمية ومراكز الأبحاث، والتي تضيف عوالم خارجة عن المألوف مسببة تضافر الحقيقة والوهم في آن، لنجد أنها شكّلت علامات استفهام في ماهية التحقيق عن قدرة واستقراء كثير من الحتميات التي أحاطت به مكونة إعادة تدوير قيمي ناجم عن اختلال المتوارث والإطاحة ببعض من ركائزه، ما أجده في هذا الحين، أن ثمة محواً أو تغييباً لكثير من الطباع المؤهلة لطبيعة الفرد لينعكس هذا الحال على اللغة وطريقة التصرف، فلو أخذنا على سبيل الحصر، الآصرة الاجتماعية ومدى تواشجها في الوقت الحالي على الرغم من توفر وسائل الاتصال وانفتاح نوافذ العالم عن طريقها، كذلك سيمياء الأزياء، المفردات السائحة المتناقلة عند العامة والتي قوّضت المعرفة بالأشياء وحجّمتها، الأمراض النفسية المصاحبة للإنسان جرّاء المرئي وإدمان تداوله، تمرير العلاقات الشاذة الموهومة بالتحرر، اللوثة المعلوماتية التي جعلت الوقت سائباً لا وجود لثمر حسنٍ يُنتج من خلاله. 

إن بيان جوهر الصفة الوافدة وحقيقة استقرارها ومدى نموها ومجال تفاعلها أعادت صياغة المجتمع على وفق محدداتها، لعل كثيراً من العادات التي تربينا عليها اندرست لتحلّ محلها عادات كانت من الصعب تقبلها، أنا هنا أتحدث عن إعادة صياغة الإنسان من دون تدخل جيني أو ناقل حيوي لبيوض مخصبة، ليكون التأهيل الجديد له جاء عن طريق الثورة المعلوماتية المهولة لأجد أن العالم أصبح مسيراً على وفق خوارزمية لها اعتباراتها العلمية وشروطها المنتقاة، فما عادت الأنساق الوراثية تمثل عائقاً في ماهية المحافظة على التشكيل البنيوي لطبيعة المجتمع، كذلك أجد أن المشاعر والأحاسيس التي أحاطت بصيرورة الإنسان ومكنته من أن يتعامل مع الآخر على وفق هذه المساحة العاطفية من الممكن ان تتأثر حيال تدوير الرؤية المتبعة له عن طريق الباعث الاعلامي ليعطي مقررات مختلفة عن سابقه بالتالي ثمة استحداث لمنظومة قيمية مجتمعية جديدة تعبّر عن ماكنة العصر ومستجداته، وقد يكون هناك تهيئة لسياقات قادمة تضرب المعمول به الأن وهذا تنويه إلى المجتمع الخاوي الذي لا يستطيع ان يستشرف لمآله وأن ينظّم حياته على وفق تقلبات القادم، لعلي أشير إلى ما جاء به  نيتشه بتصدير سمة الإنسان الخارق الذي يتكفل في إدارة شأنه بنفسة وأن يرفض الوصاية من أحد خير دليل على إتباعية المجتمع وتحديد صلاحية طباعة فتكون للماكنة الإعلامية السلطة الفعلية والمباشرة ايضاً. 

في الواقع.. علينا أن ننوّه إلى مسألة غاية بالأهمية، هل أن الحراك العلمي المتقن، وما تنتجه تكنولوجيا المعلومات سبباً في ذلك، أم أن تداعيات السياسة والاقتصاد وضرورة إبقاء النظام الشمولي وسيطرة القوى الرأسمالية هو المسوغ  للنزوع نحو إضفاء حياة مجردة؟ ليكون إنسان هذا العالم خائر القوى لا يستطيع قيادة شأنه، هل ثمة حياة مغايرة أم انتهاك لخصوصية الكائن البشري وتفتيت كينونته؟ وهل أننا نسير على وفق ما نريده أم ثمة قوة خارقة تتحكم في مصائرنا ان كانت سياسية أو علمية تسير بالاتجاه المعاكس لاستنزاف وجوده، هل صحيح أنه كلما انبرت لغة الماكنة باختراع ذهني مستقر انحسرت قدرة الإنسان وأمحى أثره على الرغم من سهولة التعاطي مع الحياة عن طريقها.  

واقعاً، أجد أننا بحاجة إلى دراسة طبيعة المجتمعات وتفكيك انساقها وتحليل حمولتها القيمية المتوارثة منها أو الوافدة واستقراء التحولات البنيوية التي تصاحبها لبيان المحرّض الذي يحرك الإنسان على وفق الحالة المعيشة مقدراً في ذلك استجابته للكثير من السياقات المستوردة لتشكل كيانه فيما بعد.