حوار: سامر أنور الشمالي
عبر أسلوب ابتعد عن التقليدية واقترب من المغامرة والتجريب، هناك نحو حدود رؤية ساخرة لا تثير الضحك الممكن، بل تصنع المؤلم من المفارقة.. كتب الأديب باسم سليمان الذي لا يريد أن يقيد نفسه إلاّ بنظرياته الخاصة وفلسفته المتمردة في الرواية والقصة القصيرة والشعر. إذ صدر له العديد من الكتب الإبداعية، منها "تماماً قبلة، تشكيل أول، مخلب الفراشة، الببغاء مهرج الغابة، خال كصفر تهب فيه ريح الأعداد، نوكيا، الحب عزاؤنا الأخير" وغيرها.
*نجد حسّ السخرية.. ففي كلّ ما تكتب تتوارى السخرية بين السطور، أو بمعنى آخر ترشّ ملح المفارقة بنسب دقيقة على سلطة الواقع.. هل هناك سرّ ما وراء هذا الأمر؟
-عندما نُصّب الإله مردوخ كبيرًا للآلهة في الأسطورة البابلية تم اختباره حتى يكون أهلًا لهذا المنصب في مجمع الآلهة؛ وكان ذلك بأن طُرح رداء أمامه وطلب منه أن يخفيه عن الوجود بموجب كلمة ينطقها، ويعيده بكلمة أخرى. من هذه النقطة يصبح عمل المبدِع صاحب الكلمة الأدبية خالقًا بالتشبيه والاستعارة في عالم الخيال، ومن هذه الزاوية تغدو كلمة المبدع نوعًا من المفارقة الساخرة، سواء كانت منطوقة أو مكتوبة، من خلال السؤال عن جدواها، وفعاليتها في الواقع. لكن الخيال عبر فعل التخييل يؤثّر في الإنسان وهذه مفارقة ثانية، حيث أنَّ كلمة هذا المخلوق الفاني لها قدرتها على الفعل مهما كانت ضعيفة. ومن هنا كان للمهرّج في بلاط الملوك والقادة حتى الديكتاتوريين منهم، القدرة على نقد الأمر السلطوي وأحيانا تقويمه عبر تهريجه. وإذا كان من تمثيل لذلك نجده لدى مارسيل بروست في روايته: "البحث عن الزمن المفقود" الذي ينطلق من حاسة الشم التي كانت مزدراة من قبل الفلسفة والفكر وذلك من أجل استعادة الماضي. لقد كانت تعتبر حاسة الشم أقرب للحيوانية في مقابل النظر والسمع الحاستين الإنسانيتين العظيمتين اللتين يعتمد عليهما العقل في التفكير والتذكر. إنّ مدخل بروست نوع من السخرية من الفكر والعقل الأوربي في القرن العشرين. هذه هي الأسس التي أنطلق منها في ذرّ بهارات السخرية في كل ما أكتب، فأدب لا سخرية فيه أدب ميت.
*يبدو أنّك ترفض الالتزام حتى بشروط الجنس الأدبي الذي تكتبه ففي روايتك "جريمة في مسرح القباني" تتداخل الأجناس، وتختلط هل الأمر مجرد تجريب أو مغامرة؟
-ليس تجريبًا ولا مغامرة، فألف ليلة وليلة فيها هذا الخلط. وحتى هوميروس قصّ حكاية عبر الأشعار. وما دمنا في جريمة تقع على خشبة أبي الفنون، فمن الطبيعي أن يحضر أبناؤه؛ المقال والشعر والمسرحية والقصة بين قوسي الرواية. وأرى بأنّ الرواية جنس جامع، لأنّها ابنة المدينة التي تصب فيها مختلف المشارب.
*أكثر إصداراتك في الشعر. هل تحرص على تقديم نفسك كشاعر، لأنّ الشعر أكثر بهاء برأيك، أو لأنّك تجد نفسك متمكّنًا في الشعر أكثر من الأجناس الأخرى التي تكتبها؟
-القضية بالنسبة لي متعلّقة بجدلية المضمون والشكل المناسب له والزمن الذي قيل فيه، فأكثر إصداراتي الشعرية جاءت إبّان المحنة السورية، حيث الحاجة للتعبير المتزامن مع ما يحدث اشتباكًا معه أو هروبًا منه، لذلك كان الشعر. أمّا الرواية فتكون بعد أن تولد مسافة للحياد، بينك وبين الحدث، بينما القصة؛ هي الحدّ الأوسط بين الشعر والرواية في الترابط مع الحدث الوجودي.
*الشاعر الكبير أدونيس قال عنك "أنت تكتب خارج الأفق الذي تتقلّب فيه معظم الكتابات الشعرية العربية"، بعد هذه الشهادة الكبيرة بحقّ إبداعك الشعري وصدور ديوانك "رأسي البسط، جسدي المقام، أنا كسر بين الأرقام" تحت رعايته، فماذا تقول؟
-هذه الشهادة العظيمة من المعلّم أدونيس بحقّ شعري، أجدها بعد ذهاب السكرة ومجيء الفكرة، أشبه بعقدة الحبل التي لا تفكّ التي قدمت للإسكندر المقدوني لاختباره، فما كان منه إلّا أن شهر سيفه وقطعها نصفين، وأنا الآن في ورطة أمام الشعر وأدونيس، لذلك أنا صامت هذه الأيام عن كتابة الشعر!
*في روايتك "نوكيا" التي صدرت عام 2014 نجد أن أحد أبطالها اسمه باسم! فهل هناك شبهة سيرة ذاتية؟
-بمكان ما نعم! فأبطال الرواية الآخرين: محمود وداني هما أيضًا أجزاء من شخصية باسم في الواقع الممزوج في التخييل، فمحمود غرق في البحر المتوسط وهو يقصد أوروبا. وداني هاجر إلى كندا. وباسم في الرواية والواقع بقي في سورية.
*بين مجموعتك القصصية "تمامًا قبلة" التي صدرت عام 2009 ومجموعتك "الفراشات البيضاء" التي صدرت في عام 2023 عقد وأكثر، ما الذي تغيّر في القاص الذي فيك؟
-أعتقد أنّني خرجت من التعريف النقدي الإجناسي للقصة، بأنّها اقتناص حدث وتكثيفه في برهة زمانية مكانية إلى الاعتقاد بأنّ القصة كيان كامل لا اجتزاء فيه، لا يمكن أن يقال إلّا بعدد محدود من الكلمات وكأنّنا أمام بحر من بحور شعر العمود، فماذا يمكن للقاص الغواتيمالي أوجوستو ونتيرروسو أن يقول زيادة عن تلك الكلمات السبع: "عندما استيقظت وجدت الديناصور ما زال هنا" في وصف ما آلت إليه البشرية في القرن العشرين، فهذه القصة ليست تكثيفًا وأخذ شريحة من حدث ما ومعالجتها، بل سرد لا ينتهي تأويله!
*في مجموعتك "الفراشات البيضاء" أكثر قصصها تدور عن الحيوانات فهل هي على نهج كليلة ودمنة؟
-هي إعادة قراءة وتعلّم من كليلة ودمنة، لكنّ الحيوانات في مجموعتي لها أصواتها الخاصة، فهي تثور على أمثلتها كمعادل تخييلي عن الإنسان وطباعه. ومن هنا، اقتلْ كل الذباب والبرغش، فسوف تموت عصافير الغابة! لذلك أنقذت الذبابة في إحدى قصصي فتى من مرض التوحّد، وأشعل صرصار حربًا عالمية ثالثة، فالعلم يقول بأنَّ الكائنات الوحيدة التي ستبقى بعد المحرقة النووية؛ هي الصراصير!
*ما هي طقوس الكتابة لديك وهل تنبع من المعاناة المرضية التي تعيشها؟
-عندما يهدأ جوع الألم بعد إلقامه المسكنات، وإقامة أسباب الحياة، عندئذ أجد الوقت لأكتب.
*متى تستلم وتعلن الهزيمة أمام صعوبة الواقع؟
-أنا للأسف، لا أملك رفاهية الهزيمة وغنى الاستسلام.