بعض أسس الأدب قبل كتابته

ثقافة 2024/03/25
...

  ياسين طه حافظ

هي سلسلة مقالات أكتبها. مبسطة هي ومختزلة قدر ضرورة أن نفهم (الكتابة) الأدبية ذهنية ثم تنفيذاً آلياً. وهي تبدو محاولة صيد لسمك نادر في مياه غير مستقرة، ومن صياد لا يمتلك ما يعينه على الايضاح إذا ما اعانته حصيلة على الفهم أو الافتراض.

لكنني سأواصل المسعى لعل وصولا ولعل وضوحاً، ما دامت هي مهنتنا و {يا للأدب من مهنة شاقة!}

كانت أولى دروس البلاغة التي تعلمناها، هي التقديم والتاخير في تفسير وتحليل سورة الفاتحة:

إياك نعبدُ

و

إياك نستعين

وإن التأكيد على المخاطب، وهو هنا أنت لا سواك من نعبد ونستعين بك أنتَ لا سواك. وتعلمنا صيغ المبالغة وهي صفات مشتقة من أصل الفعل، ثم التلاعب الذي فيها لتغيير حجم أو مستوى ما يملك من نَصِفُه واطلقت على الصيغ اسماء فهذه صفة مشبهة وهذه اسم فاعل. ما يهمنا، هو ادراك الدارسين لمدى فعل كل صيغة منها . وأن "علاّم" تعني أكثر علماً من عالم وعليم وفتّاك أكثر فتكاً من فاتك.

ثم علمونا أهمية التكرار وفعله والفوارق الناعمة بين حروف الجر، فعلِمنا لماذا وصلنا إلى المكان ووصلت له ووصلته حتى قاربنا إلى قد التحقيق وقد التقليل، وسوى تلك مما كان ومايزال نافعاً أو ما تجاوزناه لسواه!

لكن هذه صارت اليوم كلمات تلقين أولى أن لم تكن تسميات حسب، بعدما كشفته الالسنة من النمط Pattern وتحولات المؤثر فيه وفعل السياق. صرنا مَعْنيين بما يحتويه من الموضوعي والذاتي وهو ما فتح أذهاننا على مكونات خفية وظاهرة، وعلى آفاق أخرى جديدة في اللغة، وعلى جوانب ما كنا نعرف عنها إلا اشارات وتسميات من غير أسرار. نستعين هنا بامثلة أوردها راي جاكدنوف بترجمة محمد غاليم:

المشكل م لا يهمني

لست مهتماً بالمشكل م.

ففي المثال الأول الاهتمام ذاتي يخصّني (يهمني) أو لا يهمني وهي صيغة أخرى ل اهتم أو لا أهتم – الفاعل هو الذي اختلف، وأنا الذي اهتم وقع عليه الهم. كما هو واضح الاهتمام الأول بالذاتي والثاني بالموضوعي.

صرنا أيضاً نعني بمكملات المبنى وما تسببه أو تحيل اليه. وهذا يتضح في المثال الذي أورده "فان دايك" في "علم النص" ترجمة سمير البحيري:

... لأن الفندق يقع على الشاطئ

لأن الفندق وقع على الشاطئ

ووقع هذا الفندق أيضاً على الشاطئ 

في المثال الأول، ربما توافر منظر جميل على الشاطئ. في المثال الثاني شعر المشاهد بتحسن. في المثال الثالث ليس غير إخبار عن فندق آخر يقع على الشاطئ.

أردت بهذه الأمثلة أن أشير إلى أن البلاغة ما عادت تقتصر على ما كنا نعرفه أو التي كانوا يدرسونها. كانت ضرورية ولم تكن، ولم تعد، كافية!

نحن في الكتابة لا نفكر بقواعد، نوع من الفطرة وراء الوعي. وفي تعابيرنا ما يضمن الدلالة التي نريد ونحن بقصد المعنى. ما يلاحظ في غالب الكتابات الأدبية، لاسيما كتابة الشعر السائدة، إنها غير مبالية لا بموقع الرضا ولا بموقع الكراهة، في موقعها من السياق، وكأن لا تهم الشعر "الموقع"، الذي تظهر فيها هذه الصفات، وهي وراءها مشاعر انبثقت بسبب وأخذت مكانها على الورق بسبب. فالشاعر حين يتغزل تتوالى الأفعال والنعوت: جاءت، ذهبت، ضحكت، ماتت، غادرت مبتسمة أو خائبة. هكذا فيض لغو يعني افتقاد الضرورة الفنية. للاسف، النقد الأدبي لا يتحرك بمنطق ألسُني، فيهيمن بسبب غياب (العلمي) الارباكُ أو تختلط المتضادات بلا اصرة معنى. فلا ينتبه القائل لـ "لم ألق منك إلا العذاب" إنه لقي شيئاً، خلاف قوله: لم الق شيئاً! هذه صيغ كانت من قبل أقرب إلى البديع، فهي صيغ بديعية أكثر منها بلاغية واليوم هي ألسُنية. أكثر مما هي بلاغية قديمة. كانت تعتمد الطرافة لا المعنى، هي اليوم فاعلة في التركيب اللفظي وفي التركيب الذهني قبله، لنراه مرسوماً أو منطوقاً. وهنا وجب الانتباه إلى الفرق بين ما مضى وبين قول المجنون قيس:

كلانا يا أُخَيَّ بحب ليلى

بفيَّ وفيك من ليلى الترابُ

هذه صيغة ايجاب مقارنة بقولك مثلاً

جيبي مليء بالفراغ.

الشعر، فناً، غيره طرافةً ومِزاحاً. والكتابة الأدبية، المتقنة تأخذ في الاعتبار مواقع الكلمات وهي ترسِم التعبير أو تكوِّن العبارة. فما دامت كتابة ابداعية، اذاً هي غير الكتابة "الخبرية" كالمقال ذي الشأن اليومي والخبر السياسي العام والاعلان. هذه لها مهامها ولكنها غير مطالبة بمستوجبات الفن. هذه لها قواعدها الحِرَفية التي فرضتها سياقات المهنة "الإخبارية" أو الغرض أو التوجه. في الفن الاحاسيس الخاصة. تتقدم أو تتاخر لدافع ذاتي لا استجابة لمطلب خارجي أو سعياً له. وفي هذا الشأن اعتقد بان كشوفات علم النفس والذاكرة مع انتباهات اللسانيات الجديدة، ستغير الكثير من المسلّمات وسنكون بازاء مدارس فهم وتحليل جديدة "للتركيب" ولن نستغرب بعد أن ما في المثال من تعارض: 

لم أبلعْ أي شيء، أنا فقط بلعت

لم آكل أي شيء، أنا فقط أكلت

إن كل اللعبة، أو كل التعارض يتوقف على الفعلين بلعَ واكلَ وليس للنسيج اللفظي في المثالين شأن فاعل لولاهما!

في كل تقديراتنا للمفردة، نضع في الحسبان أن كتلتين مثل فاكهة وحجر (مقاربة لمثال جاكندوف) وكتاب وقطعة حديد هما كتلتان لكننا نعرف أن الفاكهة فيها مادة غذائية، فيها عصارة حية ولب. والحجر يمكن أن يفيدنا في احتياج آخر غير هذه. وفي الكتاب معرفة ومعلومات، بينما قطعة الحديد الصلبة جامدة بلا خلايا حية ومن معادن ميتة أو معدن. وهي أيضاً قد تنفعنا في بناء أو تكون جزئية في ماكنة. معنى كلامي أن لهما وجودين مختلفين في المعجم، وأن ما في المعجم رسوم كلمات وليست لغة. والكلمات لا تصير لغة إلا عند الاستعمال، فاللفظ أولاً ثم الكتابة، والكتابة رسم لما نتصوره ونريد أن نلفظه لغة.

من هنا لزم الاهتمام الدقيق بما نريد أن نفصح عنه. لأن لنا فسحة في أن تجد اتساعا للدلالة اتساعا يزداد في الكتابة. الكتابة مرحلة ثانية متقدمة للغة إذا اعتبرنا لفظها أو نطقها مرحلة أولى. وأدبياً كتابة ما نتصوره أرقى وأوسع من "كتابة" ما ننطقه. وهكذا اختلفت لغة الأدب وهكذا صارت فناً!

كانوا يدرسون لغة الأدب، لاسيما لغة الشعر، بنوع من الفهرسة، بالاشارة للتعابير التي "تميز" فن الشعر أو تكثر فيه. وهذا غير مقبول أبداً في أي منطق نظري، لأن أي مفردة يمكن أن تجد لها مكاناً في النص الأدبي إذا ما وجدت حاجة لها وإذا رحّب بها السياق.