رولا حسن
في {لا يمنة ولا يسرى} تطرح ندى الشيخ سليمان رؤيتها للعالم عبر علاقات متشابكة مع ما يحيط بها فبدت قصيدتها، وكأنها نوع من العلاقة بين الذات والعالم عبر تجارب شعورية متداخلة، وبما أن قصيدة النثر أصبحت أثرا شخصيا يدل على الشاعر، فهي وإن كانت نتاجا للشاعر، فإنها تخص الشاعر ذاته
وهي والحال كذلك لا تصد جمهورها عنها لكنها في الوقت ذاته لا تسعى إليه فهي بالنسبة للشاعر فعل اكتفاء، لذا بدت وكأنها وجهة نظر أو بكلام آخر يقدم الشاعر عبر قصيدته وجهة نظره عن العالم، وبالتالي تغدو القصيدة شخصية لأنها تبدأ بالشخصي ولا تتجاوزه: "إن سألوك عني/ فقل لهم/ كانت تطحن مواجع تحت رحى قلبها/ وتطعمني لؤلؤ يضحك".
تنزع ندى في قصائدها إلى الشفاهية، وهو ما يتمثل في تكثيف المجاز اللغوي والصور والإزاحة اللغوية سعيا إلى جعل النص فضاء للتأويل المفتوحة وهنا تجدر الإشارة أن اللغة بهذه الطريقة تتخلص من كهنوتها التاريخي، ومن استراتيجيات البلاغة، مؤكدة على التمسك بلغة الحياة اليومية وتراكيبها ومنطقها الجمالي الخاص.
اعتمدت ندى على السرد فاستعارته من مجال القص إلى مجال الشعرية، وهو أبرز مظاهر ما أطلق عليه الكتابة عبر النوعية بحسب الدكتور عبد العزيز الموافي في كتابه قصيدة النثر، فالقصيدة تأخذ الشعرية المنحى الانفعالي للتجربة، وعن السرد الحياد اللغوي وهنا يكمن سحر القصيدة عند ندى بالرغم من وقوع بعض القصائد في مطب السيولة العاطفية .
وفي استخدامها لتقنية السرد تعتمد على التداعي وهو طريقة في السرد، حيث أن التداعي هنا يتم للربط بين مفردات تندرج داخل علاقة لكنها تظل متوارية ولا تحتاج والحالة هذه لفك شيفرتها بقدر ما نحتاج إلى قدر من الوعي للتعامل معها: "والتقينا/ جلسنا قبالة نبضينا/ وبيننا كان يترصد القدر/ وعلى طرف الطاولة اللا منتهية/ وضع يدا/ وخبأ المسلولة بالغدر/ عيني حمامة بيضاء تنقر خبزه المسموم/ ظهري ياسمينة قرمزية/ المكان ذئبة تعوي/ لا عيون للمحدقين/ لا جسد للسماء/ لا شجر"- مقطع من قصيدة "طاولة الحلم".
فالسرد عند الشاعرة لا يمضي في طريق ممتد، لكنه يأخذ شكل تموجات دلالية تنتجها الذاكرة، وبالتالي فالمضمون لا يتأسس على نمو الدلالات بل على تجاور المفردات وعلاقات التضاد، ويسيطر التداعي على بداية القصيدة ثم تبدأ القصيدة في فض علاقاتها تدريجيا وحين نصل إلى نهاية القصيدة يستحيل التداعي من مرحلة التجاور إلى مرحلة النمو والاضطراد.
ليصبح النص أشبه بلوحة كولاج، يتم تجميع شظايا متفرقة، تؤدي إلى سمة الوحدة من خلال التعدد والاضطراد التراكمي، وهي آليه تعمل عليها ندى بجد وتستثمرها بذكاء في غالبية قصائدها.
خاصية أخرى من خصائص السرد تعتمدها ندى، وهي التكرار وهو هنا ليوضح تعدد زوايا الرؤية فالشاعرة تنظر إلى شيء ما أو حادثة ما من زاوية ثم يضع هذه الظاهرة أو الحادثة أو الشيء في مركز الدائرة ،وتقف الشاعرة على محيطها لمعاينة الموضوع من أكثر من زاوية، لذا تتوإلى الجمل أو الفقرات وكأنها تكرار لما سبقها بينما هي في الواقع إعادة انتاج لزاوية الرؤية، في نفس الوقت تكون فيه استدراكا لما سبقها .وهذا التكرار يلعب دوره المهم في القصيدة، فهو لا يؤدي إلى التراكم اللغوي بقدر ما يشير إلى الفاعلية الدلالية للنص: "لا تمت على عتبة الأبواب الشحيحة/ مت على نافذة قمر ساكن/ مت على الريش/ لا تتعلق بالمفاتيح/ فكل ما يصدأ/ يفور حمضه المر في الذاكرة/ لا تمت وبيدك حقيبة/ تجمع بها فتاتك/ مت وأنت تطعم العصافير"- مقطع من قصيدة "لا تمت".
الملفت في قصائد ندى التوقيع والمقصود بالتوقيع هنا: الإتيان بكلمة واحدة أو مقطع صغير بعد مقاطع طويلة حيث تكون هذه الكلمة أو هذا المقطع هي قفله تامة للمعنى حيث يتم إرجاء اكتمال المعنى بها حتى الكلمة الأخيرة وهذا الأمر يطفى لونا من المتعة الوجدانية والعقلية تمنح القارئ لذه ومتعة القراءة: "لا تمت دون قلب وطي/ دون نسف أو يقين بورق المقدسات/ والموروثات/ لا تمت على معتق عصيب/ مت حرا/ كريح".
في "لا يمنة ولا يسرى" حسمت ندى الشيخ سليمان أمرها في خيارها قصيدة النثر وقد شحنت قصيدتها بالعديد من الظواهر اللغوية بقدر من الفاعلية وأدرجتها ضمن وظائف خاصة للشعرية، وهذا جانب مهم من تميزها بالرغم من أنها لم تنجو من الوقوع في مطب السرد المجاني في بعض القصائد.