عدنان حسين أحمد
يسعى الكثير من المخرجين السينمائيين إلى توظيف ذكرياتهم وتجاربهم الشخصية في أفلامهم الأولى أو اللاحقة تماما، كما فعلت المخرجة الأذربيجانية أتانور نابييفا في فيلمها الوثائقي الخامس {قمر بلا بيت}حيث عادت إلى قريتها واسترجعت طفولتها التي أمضتها عند سفح جبل {آفي} المحفور في ذاكرة الأذربيجانيين بكهوفه القديمة، التي استوطنها الإنسان في العصر الحجري القديم.
تختزن أتانور في شريط ذاكرتها صورة ذلك الجبل العملاق، الذي بدأ يختفي الآن بعد أن أصبح مهجورًا ومُحاطًا بالمصانع والمقالع الحجرية حيث تلتقي بجدة وحفيدتها تعيشان في تلك المضارب التي تركتها منذ سنوات طوال وبمساعدة هذه الجدة وحفيدتها تحاول أتانور إحياء ذكرياتها التي بدأت تتلاشى مثل الجبل الذي تنهش في سفوحه الجرّافات الثقيلة وتقوّض عظمته شيئًا فشيئًا.
تحمل الجدة وحفيدتها الاسم نفسه وهو تازاگول وتقيمان على مقربة من الجبل؛ تربّيان الأغنام والماعز والدجاج، وتعيشان على ما تدّره هذه الحيوانات الأليفة من خير وفير يسد رمقهما ويفيض عن الحاجة أيضًا فيجد طريقه إلى الأسواق القريبة من القرية.
قد لا يجد المتلقي ضرورة مُلحّة للتوقف طويلاً عند كل ما تقوم بها الجدة وحفيدتها فهما تطعمان الماشية وتعتنيان بها وحينما تفرغ الطفلة تجمع النمل وبعض الحشرات وتضعها في حاوية زجاجية وتراقبها في هذه المساحة الضيّقة، التي تحرمها من حرية الحركة في الفضاءات المفتوحة التي اعتادت عليها قبل الأسْر.
تقوم بنية الفيلم على تقنية الروي وسرد الحكاية وكأن الجدة تروي لحفيدتها أو لنا مباشرة من دون وسيط حكاية خرافية قد لا نصدّقها ولكننا نقتنع بما تقوله الجدة بوصفها تمثل رافدًا من روافد الذاكرة الجمعية للشعب الأذربيجاني الذي يجترح القصص والحكايات على مرّ الأزمان.
تروي لنا الجدة على وفق الأسطورة القديمة التي تقول لم يكن على الأرض أول مرة بشر أو حيوانات.
كان هناك فقط أمنّا الأرض مع أبنائها الثلاثة، وهما الجبل والبحر والغابة.
كانت علاقة هؤلاء الأشقّاء الثلاثة جيدة مع بعضهم بعضًا؛ فهم أخوة متحابّون، متكاتفون لا تفرّقهم المشكلات العابرة، ولا تقضُّ مضاجعهم المنافسات الصغيرة.
ناقش الأخوة الثلاثة فكرة أن يكون لديهم أخ أصغر، فاقترحوا هذه الفكرة على أمهم "الأرض" التي وافقتهم في الحال فأنجبت طفلين اثنين كان الأول إنسانًا والثاني حيوانًا فأحبّ الأخوة الثلاثة أخويهما الأصغرين واعتنيا بهما كثيرًا، لكن الإنسان الذي شبّ عن الطوق بدأ يسيطر على أخوته ويتصرّف بحقد وخبث واضحين، ولم يستطع أحدهم أن يكفّ أذاه أو يوقفه عند حدّه.
ونتيجة لأفعاله المُستبدة الظالمة ظهر تنّين فدمّر الجبل، وقتل ثلاثة من أشجار الغابة، وجفّف ماء البحر لكن أمّنا الأرض أُحبِطت كثيرًا فقتلت التنّين، ونفت الإنسان إلى الصحارى البعيدة، لكنه ندم على أفعاله الخبيثة وظلّ ينتظر مغفرة الأم ورحمتها.
تُنهي المخرجة فيلمها بطريقة رمزية وواقعية في الوقت ذاته حيث تدوّي صفارات الإنذار في كل مكان بحيث ترتعب الأغنام والماعز والكلاب، كما يدوّي صوت الرعد، وتتوالى عشرات التفجيرات في أحد المقالع الحجرية التي تشير إلى أنّ الإنسان يدمّر أمنا الطبيعة منذ فجر البشرية وحتى يومنا هذا.
أمّا النهاية الطبيعية فإن الجدة توقد النار في المدفأة الحديدية الكبيرة ثم تُوقظ حفيدتها من النوم وتتناول معها فطور الصباح، لتنغمس الاثنتان في شؤون الحياة اليومية.
ينطوي العنوان "قمر بلا بيت" على دلالة معينة لابد من توضيحها فثمة معبد ألباني قديم على قمة جبل "آفي" وبحسب الأذربيجانيين فإن كلمة Avey تشتمل على مقطعين وهما Ay التي تعني "قمر" وكلمة Ev وتعني "بيت"، والكلمة برمتها تعني "منزل القمر" على افتراض وجود "معبد قمري" في تلك المضارب التي يصعب الوصول إليها بسبب قربها من خطوط المواجهة مع الأرمينيين.
وأفضت حرب ناغورنو كاراباخ الثانية إلى انقسام شعب أذربيجان بشدة. كانت أتانور مصممة على استكشاف هذه القضية المعقدة والمثيرة للجدل، وتوثيق مدى تأثيرها على عائلتها.
جدير ذكره أن أتانور نابييفا قد ولدت وترعرت في العاصمة الأذربيجانية باكو. درست الإذاعة والتلفزيون والسينما في جامعة إسطنبول، وحصلت على درجة الماجستير في صناعة الأفلام الوثائقية. أنجزت حتى الآن خمسة أفلام وهي على التوالي "ملابس"، و "مسحوق"، و"المنطقة الرمادية"، و "إعصار الحًب" وتنهمك حاليًا في إنجاز فيلمها السادس "أصداء آفي". نالت أتانور جائزة أفضل فيلم وثائقي محلي لدوكوباكو سنة 2020.