الوحش المخلبي

ثقافة 2024/03/26
...

  أسماء محمد مصطفى

تنام وردتي الصفراء في حضن أصيصها على حافة شباك غرفة النوم، وأنا أحاول أن أغمض عينيّ حين تدق طبول الليل في فراشي، مدركة أنه اليوم الثالث على أخذ جرعة العلاج الكيمياوي، وهو موعد معركتي الجسدية مع آثاره على أوعيتي الدموية.. علاج يدمر الأوعية المغذية للخلايا السرطانية، وكذلك المغذية للخلايا الطبيعية. هذا يجعلني أمام عدو أساس خطير.. المرض الخبيث، وآخر هو المعالج الحامي الذي له المقدرة على التصدي لخلايا الخبث، ولكن مع احتمالية تدميره لأجزاء من جسدي، وهو يحول جسدي إلى ساحة معركة ضد عدوه وعدوي الخبيث! هذه حقيقته، إزدواجي التأثير، يحمل في جعبته الضدين.. الدواء والسم.. الأمان والفزع..
أصفه بالصديق، المظلم، الوحشي، المخلبي الذي له المقدرة على التغلغل إلى أي مكان يريد ويعبث به، ككل أسبوع.
تبدأ مخالب الوجع تسحبني إلى الداخل، والطبول الوحشية تدق في ساحة الجسد المرهق، حينها أعرف أن العلاج الكيمياوي بدأ معركته ضد الخلايا السرطانية. أغرق في الظلمة، فأتقلب بصعوبة بالغة، يحاصرني الوجع سواء استلقيت أو جلست، دون أن أعرف ما الذي يوجعني بالضبط؟ فالهجوم يأتيني من كل الجهات حتى أفقد البوصلة. أشعر بالمخالب تسحب أحشائي الداخلية وتجعلها كرات لها. ومع كل ركلة يضج داخلي بصراخ مدوِ، ثم تحشو مدافعها بأعضائي وتطلقها في ساحة المعركة! وهذه حيلتها في جعل أحشائي رصاصات وشظايا في آن واحد!
تضغط المخالب حول رقبتي، وتأخذ رأسي لتلعب به كما تشاء، ترميه في مرماي، ثم تسحب قدميّ بقوة عنيفة، وتلويهما وتستمر في سحبهما حتى يخيّل لي أنهما يتدليان من حافات السرير! ثم تنغرز في ذراعيّ، وتخرج من بينها عناكب تحاول تقييدي بخيوطها وشلّي، لكنني أقاوم.. وأحاول تثبيت أصابعي بأعلى وادي البقاء بكل جوارحي، وبصوت مخنوق وأنفاس متقطعة أناجي ربي كي ينصرني.
أفكر أن أوقظ زوجي، ليأخذني إلى مستشفى الطوارئ، لكنني أعدل عن ذلك.. وأكتم آهاتي. لا أريد أن أقلقه أو أشغله أكثر من انشغاله بي في نهارات المستشفيات، كإنه يحملني على ظهره، كما يحمل همّي، راكضاً نحو ردهات الإنقاذ، فأنا ميتة هذه الليلة لامحالة.. الصديق العدو يقاتل بشراسة، وأنا أواصل الغرق في ظلمة أعماقي.. ثمة دوائر تتحلق بي وأنا أتحلق معها، ترميني إلى لعبة أثيرية تشبه سكة الموت، تعلو بخوفي وتهبط به كما تشاء، وألقى منها إلى متاهات أركض فيها باحثة عن مخرج النور، لكنني أجد نفسي أركض نحو مخارج للظلمة لا غير. تضرب المخالب على صدري أو ظهري، لا أعرف أين بالضبط، فإن انقلبت على ظهري أوجعني صدري، وإن انقلبت على صدري أوجعني ظهري. لم أعد أعرف قراءة بوصلة الوجع، وأنا أحاول النهوض لعلّ الوجع يختفي، لكن خفافيشه لا تنام في الليل طبعاً، إنها تنطلق نحوي وتغطي سمائي بدمائي، وأشعر بها تحاول قلع أسناني بوحشية، وإلقاء عينيّ في بحيرة الظلام.
أفتح العينين أمام ضوء الشمس التي تدق على دفوفها في فراش بقائي على قيد الحياة، وقد زال الوجع، تاركاً بقعاً بنية على جلدي وخصلات شعر منزوعة على وسادتي، وأنظر إلى زوجي مدركة أنني لم أكن مخطئة حين قررت ألا أوقظه للذهاب إلى المستشفى..
ـ استطعتُ الصمود أمام المعالج الصديق اللدود في معركة الليلة الماضية، ولكن عليّ الآن التأهب للمعركة القادمة، وكل معركة أصعب من سابقتها.. أقول لنفسي، وأنا أنظر في المرآة إلى رأسي الذي فقد الكثير من الشعر.. ويأتيني صوت زوجي المستلقي إلى جانبي، هادئاً:
ـ تبدين أجمل وأصغر سناً.
ـ أجمل وأصغر؟! إذن، الأمر يستحق.. سأستمر في المقاومة. أنا في خضم حرب طويلة، وأمامي معارك كثيرة.
أنظرُ للوردة الصفراء، وهي تتفتح مثل كل يوم، وتعانق صباحاً جديداً، على وقع موسيقى العصافير، ومعها أعانق صباح أملي، لأنني أريد أن انتصر، ثم انتصر، ثم انتصر، فمثلي لم يُخلَق لتسحقه مخالب الهزيمة.