الشّعرُ والإرهاب

ثقافة 2024/03/27
...

باقر صاحب


من حقِّ الشاعر والقاص والروائي إزاء وقائع الموت اليومي، في سنوات الإرهاب الأسود في العراق، ألاّ يتفذلك بما يكتب، أو يتفنَّن في الغموض، أو يفاضل الشكل مع المضمون، فتكون الأفضلية للأول على حساب الثاني، أو يجعل الثاني مسكوتاً عنه، يكتشفه القارئ بحذاقته.

لا نعدم في المشهد الأدبي العراقي بعد 2003نصوصاً أفادت من “  شعرنة العنف وسردنته”، اليومي اللامعقول، تحت حجب الصور الشعرية المركبة، لذلك نعثر على تشظِّيات الموت الأسود ضمن نصوصٍ منفردةٍ هنا وهناك، أو خلف مسارات الحدث القصصي والروائي.



قصصٌ مبكيةٌ شهدناها وسمعناها مرويَّةً من قبل ذوي ضحايا التفجيرات الإرهابية وشهودِ عيانٍ لها. أفواهٌ متلعثمةٌ وعيونٌ دامعة، ساعتنا نحن – كماهم – ردُّ فعلنا اللّحظي، تهطلُ دموعنا، وتتمتم شفاهُنا باللعناتِ على الإرهابيين. ردُّ فعلٍ إنسانيٍّ أوَّلي، يتساوى بشأنه المواطن العادي والكاتب والمبدع.

لاحقاً تتشكلُ ردود أفعالٍ أخرى، مثل أحاديث الناس في الشارع والمقهى والدائرة عن قصص القتل اليومي وعدم اقتراب ساعات الخلاص منه،  ومن ثمَّ تخفت الأحاديث تدريجياً خلال أسابيع من الهدوء النسبي إلى أن  تهبَّ عاصفةُ  يومٍ دامٍ آخر.

أمرٌ يثير إشكاليةً جديرةً بالدرسِ الثقافي والأدبي، هل أسلمَنا سماع ومشاهدة وقراءة أخبار القتل اليومي إلى طقس اللامبالاة بالموت، مثلاً نقول (لسنا أفضل من ماتوا)، أم أنَّ الوجه الثاني من الإشكالية مجبولٌ على نزوع التحدي المسلّح بحبِّ الحياة، بالنسبة للمواطن العادي، في حين يرصّنهُ المثقف وعياً ديناميكياً بتواشجِ ثنائية الموت والحياة في دقائق حياتنا، فضلاً عن الإيمان بحتمية انتصار صُنّاع الحياة بكلِّ محمولاتهمِ الفكرية والثقافية والإبداعية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية على صُنّاع الموت والخراب والتخلّف والارتداد السلفي المعاكس لحركة التاريخ. وهنا في هذا المقام نتناول شعرية مقاومة الارهاب الذي اشتدّت وقائعه ذروة في عام  2006 ، وتتوج إعلان الانتصار الرسمي والفعلي عليه عام 2017، نتناول هذه الموضوعة باختيار أنموذجين لشاعرين عراقيين كبيرين، كرّسا مجموعتين  ضمن تجربتيهما الإبداعيتين المتميزتين لثيمة الإرهاب، وهما عبد الزهرة زكي وخزعل الماجدي . 




 “شريط صامت”

 للشاعر عبد الزهرة زكي    

أهميةُ  المجموعة الشعرية ( شريط صامت) للشاعر السبعيني عبد الزهرة، زكي نابعةٌ من خصوصيتهِا، التي يؤكِّدها عنوانه الثانوي( نصوص عن السيارات والرصاص والدم)، عنوانٌ يشير إلى أنَّه وثيقةٌ شعريةٌ واقعية/ غرائبيةٌ منتميةٌ إلى مقاومة الإرهاب. العنوان الرئيس للمجموعة رُبَّما يفيد من السينما الوثائقية، حيث يتبادر لنا أنَّ غالبية عناوين القصائد هي مداخل مشاهد فيلمٍ تسجيليٍّ طويل، عَمِلَ عبد الزهرة زكي على اختيار لقطاته المطلوبة بدقَّةٍ بحسبِ خبرته الشعرية الطويلة، ولا نحسب أننا هنا أضأنا كلَّ أيقونات المجموعة لغناها واكتنازها بدلالاتٍ كبيرة، بل البعض منها، بحسب الحيّز المُتاح لنا، في هذه المقالة.


إيقاظ الذكريات

الشاعر أفردَ (شريط صامت: نصوص عن السيارات والرصاص والدم) ليومياتٍ تعدُّ الأشدَّ حلكةً في تاريخ العراق المعاصر، تلك يومياتُ القتل على الهوية، العنوان الثانوي يُعدُّ أوضحَ استهلالٍ لمتنِ شعري– توثيقي لتلك اليوميات، أراد الشاعر إيقاظَ ذكريات كلٍّ منا عن تلك الأيام، لابدَّ لكلٍّ منّا (شريط صامت) عنها، نحاذرُ الاقترابَ منها وبلورتَها شعرياً، خشيةً من أنَّ الأداء الشعري لن يكونَ بالمستوى المطلوب، ومن ثمَّ  يبدو مباشراً، مردِّدينَ أن الواقعَ تفوَّقَ على مخيِّلتنا فبدوْنا عاجزين.


 بانوراما سرد- شعريّة

  صورُ المجموعة تستعين بالسرد لأداء حالاتٍ شعريةٍ موجزة، تؤازرُها المفارقةُ لتأثيثِ حيويّةِ التكنيكِ في القصيدةِ-الحالة اليومية، السردُ يبرز مكانَ الحالةِ ووقائعيتها، الشخوصَ الذين ينفِّذون أجنداتِ الموت، ومن ثمَّ نحن، أمكنتَنا وأيَّ عابر سبيلٍ، ممن تقع علينا أفعالُ التفجير والتدمير والموت. في بانوراما السرد، يصنع الشاعر تواشجاتِ الحبِّ والحنين والانتظار، ممَّن يُرتكبُ ضدّهم فعل المأساة، مثلاً في القصيدة الأولى “رائحة الحب”: ص7 ، من يُصاب بواقعة المأساة (أم تنتظر ابنها):

“ترك الباب مفتوحاً...

وتركَ خلفَ الباب

رائحةَ الحب

كانَ سعيداً،

قميصهُ مفتوح

وشفتاهُ، صامتتين، تغنّيان

وقلبهُ في عينيهِ يطير .

سَمِعَت أمُّهُ الرَّصاص”

هنا إفصاحٌ عن إقبالٍ للحياة من قبل الشاب إزاء قدومٍ متضادٍ لواقعةِ الموت تجاهه، الابن يموت، الأمُّ يتضاعف عليها وقعُ المأساة، بسبب إغراقِ أيّامها الباقية في وهم الانتظار.

يتكرَّر فعلُ الانتظار المفتوح في قصيدة (انتظار): ص9 مع اختلاف الشخوص، واختلاف التواشج العاطفي بينهم، تجسّد الانتظارَ  هنا زوجةُ من سيصبح تعريفَه (جثة مرميَّة في مكانٍ مجهول) بعد دقائق من قوله لزوجته (انتظريني)، وهو فعلُ أمرٍ دالٌّ على توقّع استمرار الحياة وسريان الحميمية في المشاعر.

إذنْ يمكنُ القولُ إنَّ ثيمةَ  الانتظارِ تُعتبر إحدَى المعادلات الموضوعية لهذا الموت المفاجئ غير المبرَّر، الذي تنعكس أجواؤهُ السوداوية في غالبيّة قصائد المجموعة. شخصٌ هو إنسانٌ بكُلّ معنى الكلمة، يغيبُ فجأةً، من المنطقي أن تتحركَ هواجسُ المُنتظر إلى أقصى التوقّعات المريبة، إذاً الشاعر لعب بذكاءٍ على تنويعِ أشكال وآليات الانتظار.


 ثنائيّة الحياة والموت

يقول الكاتب الراحل قاسم محمد عباس عن ثنائية الحياة إزاء الموت في (شريط صامت) في مقالةٍ له منشورة في موقع الحوار” المتمدن”: “لن يكون الموت واقع الحال سوى حادثٍ عارضٍ يخرّبُ ترتيبَ الأشياء والأحلام والمواعيد ويمزّق الحسَّ الإنسانيَّ في تفاصيله اليومية.. لقد أدرك الشاعر قدرةَ تفاصيل هذا الموت ووقائعه على تدوين رمزيَّة وواقعيَّة انتظار الموت، بل تبنّى تدوينها على شكل نصوصٍ شعريةٍ احتاجت للإعلان عن مسؤولية إنجازها ونشرها، فدعتنا كذوات، وبضمننا ذات الشاعر، لملامسة شهادة حياتنا” . 

إذاً هناك في نصوص المجموعة ما يسمّى إرادة الحياة إزاء موت أسرع من كلِّ شيء، أيّة مناورةٍ ذكيةٍ من إنسانٍ عراقيٍّ للإفلات من قبضة موتٍ مجانيٍّ هو انتصارٌ لهذه الإرادة، وأعظم من ذلك من يضحّي بنفسه كي يدرأ (حزاماً ناسفاً) مثلاً، عن موت عديدين، قد يكونون أعزاء جداً للمضحِّي بنفسه، مرةً أخرى يتضافرُ السردُ مع الجهدِ الشعري في تذكيرنا بقصصنا الحزينة المسكوتِ عنها، منها (قصة الجندي شجاع): ص11، الذي احتضن الإرهابي (حامل الحزام الناسف) كي يموتا معاً، ولكنَّ لكلٍّ منهما موتاً ذا دلالة، فالجنديُّ بقيَ حيّاً في نفوسِ كلِّ من سَمِعَ بقصَّته، كلّ من له علاقةٌ حميمةٌ به في البيت، الحي، المدينة والوحدة العسكريّة، يهبطُ إلى هذه الأمكنةِ وما تحتضنُ من أشخاصٍ، يمارسُ واجبه كما كان، في شريطٍ شعريٍّ- وثائقيٍّ حيٍّ  متلاقحٍ بسرديّاتِ الموت، نعثرُ في كلِّ قصيدةٍ فيه، على ثنائيةِ الحياةِ – الموت. وهي بؤرةٌ تكادُ تكون مرئيةً لفظاً، غير مرئيةٍ إيحاءً، أبلغُها الأمُّ الشهيدةُ وطفلُها الرَّضيع الشهيدُ أيضاً، في قصيدة (حليبها): ص 23 ، ذات مقطعين أولَّهما مشهدُ موتٍ قاتمٍ وثانيهُما مشهدٌ حياتيٌّ مؤثِّر متجسِّدٌ في العلاقة الأموميةِ –الطفولية عبر ثديِ الرضاعة، بين الحديدِ المشتعلِ ورائحةِ النار، وعلى صدرها تفحَّم جسدُ الرضيع

“لكنَّ ثديَها

مازال حانياً

يدرُّ حليباً ورحمةً

على فمهِ الصغير”

أنسنةُ الثديِ، الجزءُ السامي في جسدِ الأمِّ لأنَّه ينبوعُ علاقتِها الأزلية مع الأبناء، يُرادُ به انتصارُ جزءٍ من جسدِ الأمِّ ضد موتٍ وحشيٍّ شاملٍ قتلَ الأمّهات والأطفال.


 ثيمة الصمت

في قصيدة (شريط صامت) ص20 يبدو الصمتُ سيِّدَ الموقف، وكما قال الشاعر في توضيحهِ بشأن المجموعة، بأنَّه ينقلَ أفعالَ الشخصياتِ وردودَ أفعالِها بموضوعية، ولكنَّه يريدُ تحفيزَ القارئ على تحريكِ مجسّاته بشأن إنشاءِ إحاطةٍ كليةٍ لما يدورُ، ومن ثمَّ اتخاذِ موقفٍ إزاء قتلٍ مجانيٍّ يدارُ بهدوءِ محترفين، دائماً يسمّى القتل بدمٍ بارد. 

تتكرر إحالات هذه الثيمة في قصائد عديدةٍ من المجموعة، في محاولةٍ موضوعيةٍ ذكيةٍ من الشاعرِ لاستفزاز القارئ، وجعلِه في حالة تَهيّؤٍ نفسي واجتماعي وثقافي للاحتجاج وعدم الرضوخ للواقع المر، مهما تكنِ القوةُ الشريرة المقابلة: الصمتُ الحياديُّ هنا دعوةٌ شعريةٌ للنطقِ الإيجابي ضد أشكالِ الموتِ ومواردهِ السياسيةِ والاجتماعية.

العمل الشعري” شريط صامت” يؤدي معانيَ إنسانيةً نبيلة، إنًّ ما حدث ينبغي ألاّ يحدثُ مرةً أخرى، هو إذن عملٌ تحذيري أفادَ من كلِّ أخبارِنا السود، ليقولَ لنا وللأجيالِ المقبلة: هذا ما عشْناهُ ومررْنا بهِ، لم نكنْ أبطالاً ملحميينَ، لم نكنْ نخشى ما يجري . نحن واقعيون: نخشى ونحلمُ، نكبو وننهضُ، نكرهُ ونحبُّ.

 ولذا كانتِ النصوصُ كاشفةً للطبيعةِ الإنسانية، عندما تُبتلى بمصائبَ من العيارِ الثقيل، يمكنُ أنْ تُستثمرَ في أعمالٍ أدبيةٍ وفنيةٍ  كبيرةِ تضاف إلى خزائنِ الإبداعِ العالمي التي نهلتْ من نكباتٍ الإنسانية منذُ القدم وإلى الآن.

 

  “أحزان السنة العراقية”

 للشاعر خزعل الماجدي

يمكن القول إن هذا العمل الشعري يمثّل استثماراً أسطورياً لما حلَّ في عراق ما بعد 2003. على صعيد الإبداع، هناك إحساسٌ بعجز اللغة عن تجاوز غرائبية الواقعي إلى الخيالي، وكيفية إعادة إنتاج لحظاتٍ متلاطمةٍ بالدماءِ والعويلِ والقبور. لحظاتٌ مارقة، لن تستطيع الإمساكَ بها بلوراتٌ مخضبةٌ بفقداناتٍ تتضاعفُ في مرآة الشاعر، ساعةَ تلاحم الذات بالموضوع. إزاء ذلك، كيف هو حالُ شاعرٍ مثل الماجدي خطفَ الإرهابيونَ ابنه مروان وبقي مصيره مجهولاً، كيف تصاعدتْ ذروةُ السرد الملحمي، للحظات وساعات وأيّام انتظار العودة المُفترضة للغائب، كأنَّما عودته تجدِّد الأملَ بانتصار الحياة؟ كيفَ تكونُ المعالجةُ الإبداعيةُ لشاعرٍ شاعرٌ غزيرٌ مثابرٌ مثل الماجدي لذلك الحدث؟

مجموعته “أحزان السنة العراقية”، يبثُّ عنوانُها تكثيفاً لضراوة متنٍ شعريٍ ملحمي، عنوانٌ...مفرداته ضامَّةٌ لتركيبٍ لغويٍّ يشفُّ عن ثلاثةِ أقانيمٍ أرادَ المتنُ تفعيلَها، مُفردةٌ “أحزان” مُعبّرةٌ عن تراجيديا خاصّةٍ وعامّة، وهي ليست مُضافةً إلى مُفردَتينِ مُحدِّدتينِ للزمن والمكان “السنة العراقية”، هيَ متآصرةٌ معهما وخصيصةٌ أزليةٌ فيهما، فالسنة المشار إليها 2006 تمثِّل ذروةَ التراجيديا العراقية. تراجيديا استلابٍ وعنفٍ ودمٍ ، جذورها مُتوغّلةٌ في التاريخ. اختزالُ الماجدي لكلِّ تاريخ الحزن العراقي فيها يمنحُ سردَ الوقائعِ اليومية لعامٍ كاملٍ بعداً فانتازياً.        

عِظَمُ المأساةِ ومواجهتُها شعرياً خلقا أسلوباً جديداً للماجدي، في هذا الكتاب. شَعرنةُ كلِّ يومٍ معايناً التقويمَ- كتاباً ممزقاً مدمّى- انتظاراً لولده المجهول المصير. ندرسُ هنا بعضَ نصوصِ أحزان الماجدي وأحزانِ أيامنا لاستحالة قراءة عملٍ شعريٍ ضخمٍ كهذا، ضمن الحيِّز المتوفِّر لدينا في المقالة.


 شعرنةُ السرد

قلنا إنَّ لُحمةَ السردِ ستكونُ عنصراً رئيساً في كتابة عملٍ شعريٍّ يومي. الماجدي في حومتي الانفعال ومن ثم التفاعل الفكري والشعري مع واقعةِ خُطف ابنه، استدرجَ كلَّ ما في ذاكرتهِ من معلوماتٍ وسرودٍ وأفكارٍ وجدلٍ ساخنٍ بشأن الحاضر العراقي الدامي الملتهب... إلى أين سيؤول مصيره؟.

أعتقد أنَّ عملَ (أحزان السنة العراقية) سيُصنَّف كوثيقةٍ إبداعيةٍ – تاريخية، تستنهضُ جمراتِ الذاكرة الجمعية من رمادِ نسيانِ وقائعَ مُقرفةٍ مُخزية، يندى لها الجبينُ الإنساني، مثل ذلك، اقتيادُ مجهولي الهوية المختطفينَ وقتلهم ببشاعةٍ في ضفاف الأنهار، ومن ثمَّ رمي أشلائهم مقطوعةً في أحواضها، ما معنى أن نشربَ دماء قتلانا وأنهاراً حمراً بتغييبِ زرقتها النقية، أنهاراً تأسّست على ضفتيها حضاراتٌ عريقة، يُرادُ لها أن تُطمسَ، كيَ تصبحَ جيناتُ أخلافِنا دمويةً أيضاً:

“مسحوا (الحجاج بن أرطأة) مهندسَ بغداد الأوّل ورموا برأسهِ من أعلى أسوارِها

وقعَ رأسُه في دجلة وانجرفَ مع التيار 

واستقرَّ في البركةِ الجانبية

أصبحَ عددُ الرؤوس إثني عشراً” الكتاب: ص 12  

هذا الرقمُ المنوِّه للاكتمال، جعلهُ الشاعرُ رابطاً بين دلالاتٍ عديدة في نصِّه “رؤوس تطفو على دجلة المؤرخ في 1كانون الثاني”. الربطُ الدلاليُّ عمادُهُ سردُ واقعةٍ لن نقولَ جازمينَ أنَّها افتراضية. أطفالٌ يلعبون على ضفةِ نهر، سقطتْ كرتُهم في بركةٍ جانبية، أرادوا التقاطَها، أصابَهم رعبٌ من مشاهدتهم إثني عشرَ رأساً مقطوعاً، هذا يعني أنَّ الماجدي استثمرَ هذه الواقعةَ لقولِ أشياءٍ عديدة معاً. موتُ البراءة واللعب، إسقاءُ غريزة القتل والتدمير عند أطفالٍ هم صنّاعُ المستقبل.

إنَّ نصوصاً يوميةً متتاليةً، لا بُدَّ لها من بؤرٍ لمتضاداتٍ يلاحقُ الشاعرُ تلبَّسَها أشكالاً مختلفة، وتجذيرها أبعاداً سياسية، اقتصادية، تاريخية وجغرافية، كما هو نص “عيون الذئاب قرب عيون الحملان” المؤرخ في 2/كانون الثاني. تتابعاً لهذه المتضاداتِ وتأصيلاتِها  وتمظهراتِها، فإنَّها تلتبسُ، في نصِّ “لماذا يلبسونَ حجراً؟ المؤرخ في 3/كانون الثاني”، بشعرية الضوءِ والظلام، يرصدُ فيها تحولاتِنا الغريبةِ وصراخَ حيواناتٍ جريحةٍ في أعماقنا.

لاشكَّ أنَّ ثنائيةً مثل الحياة والموت تعدُّ بؤرةً رئيسةً لصورِ الماجدي في أحزانه، أحزانِ ثكل الحياة لدى الأمهات، ومنهنَّ أم (مروان) ذاتها. صوَّر الماجدي الموت فاتكاً بكلِّ تفاصيل الحياة العراقية. كما في نصّ “أعيدهم إلى رحمك” المؤرخ في 4كانون الثاني، إذ يحشّد الماجدي كلَّ مفرداتِ الموتِ وصوره. مفرداتٌ مثل الظلام، خبز أسود، لحم تالف، فاكهة فاسدة، الأشباح، الأفاعي، الخفافيش، بيوض الأفاعي، القبر، جيش أسود. مثلما تتضافر مع هذه المفردات صورٌ موحية: شجرةُ الضَّحكِ ذَبُلتْ وشجرةُ النوم/ أو: السقوفُ تنثُّ تراباً/ أو: إحترقتِ السفنُ واحترقتِ النار/ أو: كسوةٌ سوداء تنزلُ على البيتِ المقدَّس/أو: ثعالبُ تمرحُ في البريةِ حاملةً شموعَنا/أو: هذا هو الساحلُ الأبديُّ لنا: رملٌ وعظام/ أو: سقطَ موسيقارُ الشعرِ في القبر. صور الموت تتجاورُ وتتفاعلُ بما يسعى الشاعرُ إلى اكتساحِ العجزِ الشعريِّ عن تجاوزِ غرائبية الواقع، وبما يسعى إلى استباق الموت بقول كلمة أخيرة.


 إشراقاتٌ صوفيَّة

هذه الصورُ لا بدَّ أنْ تستدعي الشاعرَ إلى وقفاتِ تصوّفٍ ووجدٍ إلهي: هو طقسٌ جمعيٌّ.. أن يتَّجهَ البشرُ بأبصارٍهم وقلوبِهم إلى السماء، ولكنَّ الشاعرَ يسمو إلى السماءِ بتشعيرِ الطقسِ ذاته:

“يا أيُّها البيتُ أريدُ أنْ أدورَ حولكَ مثلما يدورُ طفلٌ حول بيته.

أيها المكانُ المكسوُّ بالسوادِ أريدُ أنْ أعترفَ بأخطائي: ص20.

استباقٌ بين الموتِ والتوبة، الموتُ أسرعُ من اعترافِ الناسِ بخطاياهمْ في الحياة، فمن يسعى إلى الاعتذارِ برؤية الشاعر الجثث، يحييها لأجلِ الاعتذار، ماذا فعلتْ في حياتِها كي تُفتكَ بوباءِ الموت المجّاني، وليسَ الموتَ الطبيعيَّ بعد حياةٍ حافلةٍ بالجمالٍ والعطاء؟


  شعريّة اليومي

كثيرةٌ هي مداخلُ إضاءة هذا العمل، منها إنِّ عملَ الماجدي في كتابة  قصيدةٍ يوميةٍ مُؤرخةٍ باليومِ والشهرِ لمدّة عام، حقَّق به مخارجَ عديدة، منها، الخروجُ من اليومي العابرِ إلى الزّمنِ الملحمي، وهذا مع المخرجِ الثاني من الخاصّ إلى العامِ، يشكّلانِ سعيَ الشاعرِ إلى تحقيقِ انتصارِ واقعيّة الشعرِ على شعريّةِ الواقع. وياليتنا نحنُ معشرَ المبدعين نستطيعُ القول إنَّنا انتصرْنا.