التناص وثقافة المحو

ثقافة 2024/03/27
...

د. نادية هناوي 



طرحت جوليا كريسطيفا - وهي من أهم منظري التناص - مفاهيمها النصية والتناصية بناءً على أطروحة ميخائيل باختين في تقانات الرواية متعددة الأصوات كالكرنفال والحوارية والتهجين والاسلبة وغيرها من التقانات التي هي بمجموعها ذات صلة وثيقة بالتشكيل الكتابي والانتظام البنائي لدواخل النص الأدبي. ولا علاقة لها بالتأطير الحدي للقوالب الاجناسية. ومن ثم تكون مفاهيم كريسطيفا في التناص مفاهيم بنيوية في مبتدئها وميتا بنيوية في منتهاها.
ويمكن تشبيه هذا الأمر بالشخص الذي يقوم بفعل النطق وفي إثناء ذلك يستثمر ما لديه من ذخيرة كلامية سمعها وخبرها وتراكمت في ذاكرته فيستدعي منها ما تحفزه الظروف والمسببات على تذكره. وهذا الشخص هو نفسه الجنس الأدبي الذي مهما مر بناؤه الداخلي بعمليات التناص، فان ذلك لن يؤثر في أبعاده الحدية والنهائية. وكلما كانت الذخيرة غنية والتحفيز كبيرا، جاء الاستدعاء حافلا بالتناصات على أنواعها كما أن هذا الاستدعاء مهما كان قويا وحافلا بالجديد، فإنه لن يغير أو يؤثر في أسلوبية النطق من ناحية الطريقة التي اعتاد المرء أن يتكلم بها ويصوغ عباراته بمقتضاها. 

فالتجنيس إذن عملية قارة لكن التناص عملية متغيرة، وينتج عنها ما تسميه كريسطيفا( النص المغلق) ولا شك في أن انغلاقية النص تقود إلى عملية( التحويل) أي التحول من كون الكتابة رمزا إلى أن تكون سيمياء بمعنى أن الفعل الكلامي يتحول بالتناص من كونه نصا ظاهراphnotext  إلى أن يكون نصا مولدا genotext . وفسر جراهام ألان التحويل بأنه لعبة أو مرتبة أو حالة من التلذذ تتم على مستوى أنظمة النص الداخلية وكممارسة دالة على العبور من نظام علامات لآخر وعلى تبادلها وتبديلها وعلى قابلية تمثيل الصياغة السيميائية المحددة لنظام العلامات. 

ولا تلغي عملية التحويل التجنيس ولا تكون بديلة عنه البتة، لأن عملية التناص فعل داخلي، مؤداها يظهر على المستوى العميق أو السطحي للنص حيث يتم التبديل والتبادل وإعادة ترتيب أو تغيير العلاقات وأنظمة العلامات من منطلق أن النص هو حصيلة الأنا التي تتكلم بناء على ما يتواتر في ذهنها فكريا من استدعاء لنص أو نصوص أخرى، فيتطابق نطقها مع ما تكلمت به أنا سابقة أو أنات قبلها فتحوله الأنا الناطقة الحالية إلى نص ينسب إليها ولا ينسب إلى غيرها. 

ولا تخفى الدوافع الثقافية وراء ما تطرحه كريسطيفا حول الانفتاح النصي وانغلاقه بالتناص وتحوله من الرمزية إلى السيميائية. فهي بنفيها وجود أي أصل هو سابق وأحادي ومتعال، إنما تنتصر للثقافة الغربية اللاحقة على ثقافات شرقية سبقتها بأزمان بعيدة. 

ومثلما تعاملت كريسطيفا مع النص بوصفه ميدانا فيه تجري سلسلة عمليات تبدأ بالتعالق والتنافذ والتداخل وتنتهي بالمحصلة التي هي( التناص) فكذلك تعامل رولان بارت وجيرار جينيت وسواهما مع النص والبناء النصي من دون أي موقف محدد من التجنيس الأدبي أي من ناحية علاقة التناص بالتجنيس. فبارت أكد في مقالته( من العمل إلى النص) أن نظرية النص هي التناص الذي ينتج تحولا، وفيه يصبح المؤلف صوت كتابات متعددة مستمدة من عدة ثقافات. وأما جيرار جينيت فوضع مفهوم( جامع النص أو النص الجامع) وحدده بالطرس/ الكتابة حيث ميدان التناص النص كممارسة شعرية بنيوية، بمعنى أن النص الجامع يوجد في كل مكان( فوق النص وتحته وحوله) حيث تدور شبكته عن طريق تعليقها هنا وهناك انتماء إلى النص، فموضوع الشعرية ليس النص، بل النص الجامع أي انتماء النص لنص آخر أي مجموعة كاملة من الفئات العامة والمبهمة التي يخرج منها كل نص. وأطلق جينيت على هذه العملية اسم( التجاوز النصي للنص Transtextexluality ) أي كل ما يضع النص في علاقة مع نصوص أيا كانت هذه العلاقة واضحة أو مخفية. وهو ما وجد جراهام ألان فيه محاولة جينيتية لإنقاذ الشعرية بقوله:( هو تحديدا ما تحاول الشعرية وصفه عن طريق أدوات الخلط والتضليل.. فهي تشمل قضايا التقليد والتحويل وتصنيف أنواع الخطاب ) 

بيد أن جيرار جينيت لم يدلل على نجاعة تجاوز النص للنص ودور التناص في تصنيف النص ضمن خانة أجناسية أو لا، فاعترف في النهاية بعدم قدرته على تحديد هذه الانتماءات النصية بشكل نهائي وأخير، مبينا عدم ثقته وثوقا كليا بهذا الأمر الذي وصفه باللعبة الخطيرة، قائلا:( توجد دوما صعوبة أو ارتباك في إدراج صيغة غير عرضية ضن جدول صيغ عرض. إن تاريخ الارتباك هو ..ما يهددني هنا بإعادة فتح فصل جديد له. إلا إذا كانت الصيغة غير العرضية لا تستطيع أن تدخل ضمن النسق بوصفه الدرجة صفر) ونقل جراهام عن جينيت العمليات التي تجري داخل مضمار النص كممارسة كتابية وهي: 1/ تناص بين نص وعدة نصوص 2/ ملازمة النص كعتبات تفسير 3 / شرح النص كتعليق 4/ اثر النص بالتلميح عبر كتابة فصول مقدمات او حواش 5 / محاكاة النص هايبرتيكس نص لاحق بنص سابق متناص، فاوديسة هوميروس هي متناص عظيم أي نص سابق لرواية يوليسس.

ولا يخفى أن ما أراده جينيت هو نفسه ما أرادته كريسطيفا من التناص أعني الانتصار للأدب الغربي فالطروس طبقات كتابية، يمحو بعضها بعضا أي تعيد الكتابة كتابة نفسها بدرجة ثانية ومن ثم لا سابق هو أصل ولا جذر له فروع، ليكون النص الجامع محاكاة نصية مفتوحة الحبل على الغارب، ليست لها قوالب أو أنظمة أو قواعد، فقصة معاصرة مثلا قد تعيد كتابة قصة سرفانتس عبر نظام عام من الأساليب والوظائف فيكون كل نص لاحق هو بناء لنص سابق قد يوافقه وقد يعارضه أو يتمثله لذاته لغويا بشكل ملموس إذ لا استقلال يمنع ولا حواجز تكبح عملية البناء كما أن عملية القراءة لن تقف في وجهها عوائق فكل نص لاحق ينفي سابقه بعمليتي الكتابة والقراءة كنص وتناص أيضا. 

وتمثل ريفاتير هذه القرائية فتناول التناص كإستراتيجية يتوقف التفسير السيميائي لها على القارئ وما لديه من مرجعيات يفيد منها في فهم النص وتأويله، وخالفه المنظر الفرنسي لوران جيني بأن جعل فكرته قريبة من فكرة جينيت أي التقليل من دور القارئ والاقتراب من فكرة كرستيفيا فالتناص هو تحول عناصر من نظم موجودة إلى علاقات دالة جديدة وان مشكلة التناص هي في ربط عدة نصوص معا في نص واحد دون تدمير بعضها بعضا ودون تمزيق النص ككيان بنيوي. وبهذا يكون جوهر التناص نصيا أي أن النص هو النواة المولدة لنص عليه يرتكز النظام السيميائي اعتمادا على ما في النص من بنى ثيمية وشكلية.

أما في حالة “العبور الأجناسي” فإن سبل التناص تتنوع من ناحية ما يلحق بها من عمليات تبدل وتنوع وتحول هي أكثر من أن تحصر، وبها يصطبغ النص ويتغير ولكن الأساس يبقى واحدا وهو العبور الذي بموجبه تتحول الكتابة من ضفة متسعة فيها يمكن لكل شكل أو نوع أو جنس أن ينتقل إلى ضفة أخرى هي اجناسية حتما ودائما أي أن الضفة الأولى عبارة عن تحول والضفة الأخرى هي تحول التحول الذي ينتهي بانعطاف جذري في التطور على الصعيدين الكمي والنوعي، معه يكون القالب قد ترسخ محافظا على حديته الثابتة على وفق مقاييس التجنيس وصفاتها.