استذكاراً لرواية كلاسيكيَّة ذئب البوادي أنموذجاً

ثقافة 2024/03/27
...

فيء ناصر



بتحريض ضمني من صديقة قارئة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي بدأت بقراءة رواية بيتر كامنستيد أولى روايات الكاتب الألماني- السويسري هرمان هسه (1877 - 1946) التي حازت النجاح وجلبت لصاحبها الشهرة، نُشرت هذه الرواية عام 1904 وهي رواية رومانسية شبه اتوبيوغرافية كتبها هسه بعد رحلة إلى إيطاليا عام 1901 اقتفاءً لأثر القديس فرانسيسكو الأسيسي، وبعد موت أمه عام 1902. القصة كتبها شاب تستهدف فئة الشباب غالباً الذين ينشدون الطبيعة كملاذ في وقت التحوّل الاقتصادي والتكنولوجي بداية القرن العشرين، يقول البطل في مفتتح الرواية: “ولما كانت روحي المسكينة الصغيرة خالية ساكنة تنتظر وتتوقع. فقد كتبت أرواح البحيرة والجبال عليها أعمالها الجريئة والجميلة”.
 كان لهذه الرواية تأثير بالغ في مؤسسي فرق (الطيور الجوّالة) وهم مجاميع فتية المان يجوبون الغابات وينادون بموآخاة الطبيعة، تشكلت بداية القرن العشرين، تشابه نوعاً ما فرق الكشافة. كذلك أشاد سيغموند فرويد بها كإحدى الروايات المفضّلة لديه، لكن بطل هذه الرواية بيتر كامنستيد هو بطل تمهيدي لكل أبطال روايات هسه اللاحقة، والذين هم تنويع على شخصية هسه الحقيقية وكما يقول غوته: (أجزاء متتالية من الاعتراف العظيم)، فبيتر شاب في مقتبل عمره يترك قريته والتي وصف هسه تضاريسها بالتفصيل بتطابق تام مع بلدته كالف، للبحث عن خلاصه النفسي والشخصي. نجاح هذه الرواية جعل هسه يدرك أن بإمكانه العيش من كتابته وبذلك فقد استقل عن أبويه مادياً وتمكَّن من الزواج من ماريا برنولي وتأسيس عائلة. قادتني هذه الرواية إلى قراءة أخرى لمذكرات هسه وهي مقالات كتبها بشكل متفرِّق خلال العقدين الأخيرين من حياته وبعد فوزه بجائزة نوبل عام 1946عن روايته (لعبة الكريات الزجاجية)، والتي نُشرتْ مترجمة عن دار سطور عام 2017 بترجمة الدكتورة محاسن عبد القادر. يقول هسه في مقالته السيرّية طفولة الساحر: “ بأن أكثر أمانيه إلحاحاً وهو صغير كانت أن يملك القدرة السحرية على الاختفاء أو تغيير شكله”، وقد تحققت أمنياته بالاختباء خلف أبطال رواياته. لكن من يقرأ ذئب البراري وهي عاشر رواياته، بدأ كتابتها في مدينة بازل السويسرية بين عامي (1924- 1926 ) خلال فترة انفصاله عن زوجته الثانية روث فينجر وهجوم الصحافة الألمانية عليه بسبب مناهضته للحرب، ونُشرتْ 1927 وهو عام بلوغه العقد الخامس من عمره وهو عمر بطل الرواية هاري هالر، سيكتشف أن هذه الرواية هي سيرة ذاتية أخرى لهسه بكل شخصياتها وأحداثها وليس فقط عبر بطلها هاري هالر الذي يشترك مع هسه في الحرف الأول من الإسم وفي العمر وفي نفوره من الطبقة البرجوازية وابتعاده عن حمى الحماس للحرب، بل أن باقي الشخصيات في الرواية هي تجلِّيات ذاتية لهسه نفسه (هرمينا، هرمان، بابلو) واستحضار لذكرياته وهلوساته الشخصية. 

في موضع آخر من مقاله (طفولة الساحر) يصف هسه هلوسات طفولته البصرية المبكرة: “لكن من أكثر المظاهر سحرية في طفولتي كان القزم وأظن أنه أتى إلى العالم برفقتي، كان القزم كائناً ضئيلاً، أشهب اللون، مبهجاً، شبحاً أو جنياً ملاكاً أو شيطاناً، وكان يسير في بعض الأحيان أمامي في الأحلام مثلما يفعل في ساعات صحوي وهو من أنصاع إليه أكثر من أبي وأمي وأكثر من العقل وغالباً أكثر من الخوف”. نرى القزم ذاته في رواية ذئب البوادي، وهو من أعطى هاري هالر الرقم السري لدخول المسرح السحري. لكن من يكون ذلك القزم سوى هرمان هسه نفسه، الطفل العنيد الذي لا ينصاع لأوامر أحد وتسبب بالكثير من المشكلات لأبويه وهرب وطُرد من المدارس مراراً وأقدم على الانتحار وهو لم يزل بعمر الخامسة عشرة. يستعيد هرمان هسه طفولته القلقة ومشكلاته مع مدرسيه في أُطروحة ذئب البراري: “إن تنشئته تمت على أيدي والدين مخلصين، لكنهما قاسيان وشديدا الورع وعلى يد أساتذة متطابقين مع المبدأ الذي يجعل من تحطيم الإرادة حجر الزاوية في التثقيف والتنشئة” ص21. 

الرواية بوصفها موضة

تعد روايات هرمان هسه وعوالمه الباب الذي تلج منه شريحة واسعة من القراء عالم الأدب وكاتبة المقال من ضمنهم، لكن هسه حاز شهرة واسعة في حقبة الثقافة المضادة من ستينيات القرن العشرين حينما كانت هذه الرواية بمثابة جواز المرور إلى تلك الثقافة. في أمريكا مثلاً نصح تيموثي ليري الكاتب والمحلل النفسي الشباب الأمريكي في عقد الستينات بقراءة روايتي هسه سدهارتا وذئب البوادي. كما أن الكاتب البريطاني كولن ولسن أصدر كتاباً بداية سبعينات القرن الماضي تناول به حياة هرمان هسه وحلل خمساً من رواياته الأكثر شهرة في تلك حقبة. 

وبالعودة إلى رواية ذئب البراري وهي القراءة الثانية لي بفارق عقدين عن القراءة الأولى والتي قصرتْ عن استيعاب المغزى الحقيقي من الحكاية القديمة لانشطار الإنسان داخل روحه. نجد أن البطل الكهل المثقف التعيس يعيش عذاب حصوله على حريته وانعزاله في تطابق مع تلك المرحلة من حياة هرمان هسه في محنة انفصاله عن زوجته الثانية الذي لم يستمر ارتباطه بها سوى أشهر قليلة واستحواذ فكرة الانتحار عليه وتعرُّفه على موسيقى الجاز لأول مرة. يقول البطل: “إن العزلة استقلال. ولطالما كانت أمنيتي لكنها باردة. أوه، ما أشد برودتها”. ص 51  

يتجلَّى الفن الروائي في هذه الرواية عبر ثلاثة أصوات سردية، كل صوت يكشف للقارئ جانباً من جوانب شخصية هاري هالر. الصوت الأول؛ المقدمة التي كتبها قريب مالكة البيت التي استأجر هاري هالر غرفة فيه، بقي أسمه مجهولاً بينما كان وصفه للبطل تفصيلياً عاماً لأنه لم يعرفه عن قرب: “أن اُسهم بوصفي شاهد عيان في إضاءة صورة الشخص المميز الذي خلف وراءه مخطوطة ذئب البراري”، ثم مخطوطات كتبها هاري هالر وتركها لقريب مالكة البيت والتي قرر الأخير نشرها رغم معرفته أن أغلب وقائعها غير حقيقي، هذه المخطوطة وصف تفصيلي لكل ما يحدث في يوميات هاري وكل ما يدور في ذهنه. ثم أطروحة ذئب البراري التي تأتي من ذات أخرى علوية وعليمة، ربما هي ذات هاري هالر بعد أن يلتحق بركب الخالدين، وهي ضمن مخطوطات هاري هالر، وفي هذه الأطروحة هناك تحليل لعالم ذئاب البوادي ونزعتهم الانتحارية ولعالم الخالدين والقيم البرجوازية البليدة. وكل ما سيتم الكشف عنه في المخطوطة من أحداث وشخصيات هي عبارة عن رحلة داخلية لاستكشاف النفس، وهي الثيمة المركزية في كل روايات هرمان هسه (لأن الإنسان خلق لم يكتمل بعد).

 بطل الرواية الكاتب والمثقف هاري هالر، يُنبذ ويقابل بالاحتقار من قبل المجتمع السائر نحو الحرب بفعل الشعارات الشوفينية والتفوق، يخسر وظيفته وعائلته، ويعيش بعزلة، يتصارع داخله الإنسان الذي ينشد الخير والتحُّر والمحبة والذئب الذي ينشد العزلة. تمثل فكرة الانتحار مخرجاً سريعاً له من أزمته، وهذه الفكرة تجعله يحتمل هذه المعاناة لكنه في ذات الوقت يصارع هذه الفكرة أيضاً ولا يستسلم لها. هاري هالر انتحاري نموذجي فهو يستمد القدرة عل مواصلة حياته من فكرة الانتحار التي تمثل باب طوارئ مفتوحاً له دائماً ويبدو أن يومياته وأفكاره هي حلبة مصارعة مستمرة بين الإنسان والذئب داخله قبل ظهور المرأة في الصفحة 107 أي بعد الثلث الأول من الرواية تقريباً. لقاؤه بهرمينا هو امتلاء، ونوع من تدبير الفراغ الذي سببته العزلة، هاري هالر أراد أن يسترجع قيد الأمل، وأراد العودة إلى حضن الأم بالانصياع للأوامر، وانتظار موعد ما، طالما أنه مدرك أن حريته هي موت لأنه يقف وحيداً على أرضها. لكن هرمينا هي انعكاس آخر لهاري هالر، هي مرآته ونظيرته. وهناك شخصيات مثل غوته وموزارت اللذين يمثلان الخلود الذي يسعى إليه هاري هالر، بينما بابلو ومسرحه السحري يرمز إلى مآزق الحياة ومحاولة تقبلها عبر اللعب والدعابة والسخرية. وما الدعوة إلى (تعلم الفكاهة) التي تتخلل الجزء الأخير من الرواية إلا دعوة لوعيّ الحياة بمفارقاتها وغبائها وغرائبيتها، وعلى عدم أخذها على نحو مبالغ من الجدية. وبالمحصلة فإن الحياة عبارة عن لعبة أو مزحة وحتى المنظار الذي نراها من خلاله ماهو إلا مزحة أيضاً. وقد يكون المرء قادراً على لعب كل أدوار الحياة، بجعلها واجباً ثقيلاً، سجناً أو حقلاً للتجارب، وادياً من دموع، أو فرصاً رائعة متجددة لاكتشاف أشياء جميلة. 

حفلت هذه الرواية بندرة الأسئلة وندرة اليقينات، وكل مجرياتها وشخوصها في المخطوطة هي مجرد ألعاب ذهنية ابتكرها ذهن البطل للانزياح عن ولوج باب الطوارئ (الانتحار)، وهي دعوة لنبذ الواقع وسماع همس النفس الناحل: “كن كما أنت”، يقول هرمان هسه في مقالته قصة حياتي باختصار: “الواقع هو الذي لا ينبغي للإنسان وتحت أيّ ظرف كان أن يرضى به، ولا ينبغي له تحت أيّ ظرف أن يهيم به ويرهبه، لأنه عرضي ولأنه فضلات الحياة”. 

لكن هذه الرواية تعرضت لسوء الفهم والتفسير من قبل الكثير من القراء الذين أخذوا ما تحفل به الرواية من رموز واستعارات بشكل حرفي، مثل الحب غير المشروط  والهلوسة الذهنية، وظنوا أنها دعوة مفتوحة للمشاركة بأوركسترا العنف، بينما روّجت لها ثقافة البوب الآرت في ستينات القرن الماضي باعتبارها تبشيراً لهذه الثقافة. عام 1974 نجح المخرج الأمريكي بيتر هينز بتحويل ذئب البراري إلى فلم سينمائي بذات العنوان واستخدم كافة المؤثرات البصرية المتاحة، ورغم نجاح الفلم بنقل الرواية بكافة مستوياتها إلى السينما لكنه فشل تجارياً. وبعد تسعة عقود ماتزال هذه الرواية تحتفظ بجرعتها الفلسفية والأدبية الكاملة والمؤثرة، بشرط أن تُقرأ بتأن بعيداً عن الأحكام المسبقة أو القراءة الحرفية.