دراما السطوح

الصفحة الاخيرة 2024/03/31
...

محمد غازي الأخرس
في كل موسم درامي رمضاني يحدث الأمر معي، فأراني أشمر عن ساعدي للكتابة عن مشكلات الدراما العراقية، وسبب تخلفها عن ملاحقة ركب الدراما العربية التي تزدحم بها الفضائيات والمنصات، وهي كلها تتفوق علينا بمراحل. الحال أن انحدارنا الدرامي بدأ يدق طبوله منذ منتصف التسعينيات، بعد انهيار الوضع الاقتصادي والثقافي على إثر غزو الكويت وما جره علينا. 

بعد 2003 استكمل الهبوط منحناه وتراجع الانتاج، ثم انعكس الوضع المشوه الذي مر به البلد على الدراما، فصرنا نشهد سباقاً محموماً لتسييسها، وهنا كان مقتلها. 

لكن دعونا من ذلك، وتعالوا إلى أس المشكلات، الذي نتجت عنه كل العيوب، وأعني سطحية النصوص إلا ما ندر. يتبدى ذلك في تناول الظواهر الاجتماعية واختيار المنظور، الذي من خلاله يقدم المجتمع. 

بمعنى أن أزمة الدراما تتعلق بوعي كتاب النصوص أولاً، فأغلبهم لا يجيدون قراءة مجتمعهم وملاحقة التغييرات، التي طالت علاقاته، والأزمات التي عصفت بطبقاته وشرائحه. لا شغف عندهم بالرصد  الاجتماعي كما هو الأمر مع ملك الدراما الاجتماعية الطبقية أسامة أنور عكاشة، الذي تأثر به جيل عربي كامل ولا سيما في سوريا. 

للأسف، مقارنة كتابنا مع السوريين والمصريين تبدو مخجلة، والعلة أن غالبية أصحابنا يطفون على السطوح، ولا قدرة عندهم على الغوص في روح المجتمع لاكتشاف تعقيداته. 

كنت قلتها ذات مرة؛ كل شيء يمكن تعلمه إلا العمق، لأنه ملكة ربانية، وفي الدراما لا بد للعمق أن يصقل بالقراءة والتبحر في العلوم الانسانية والأدب، لهذا فإن أعظم كتاب السيناريو السوريين مثلا كانوا جاؤوا إلى الدراما من الأدب، ومنهم ممدوح عدوان صاحب (الزير سالم)، ونهاد سيريس صاحب التحفة الحلبية (خان الحرير) وحسن سامي يوسف، صاحب الروائع  التي لا تتكرر، (الانتظار)، و(زمن العار) و(الندم). 

في ما يخص المجتمع العراقي، لا يغرنكم أن أغلب أعمالنا يدور حول الحروب والفساد وتدهور القيم وتفسخ العلاقات، ذلك أن المعالجة سطحية في الغالب. لهذا يصعب أن نرى في الدراما كيف شوهت الحروب ملامح المجتمع، أو  كيف غيرت السلطة القمعية قيمه وأعرافه وأنساقه. كذلك، لا يفهم كتابنا بواطن شخصيات مجتمعهم المريضة، وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه. وحتى لو توفروا على الحد الأدنى لهذا الفهم، فإنهم لا يملكون القدرة على ترجمته إلى قصص وثيمات ومشاهد درامية رفيعة فنياً. 

هل صادفتم في هذه الأعمال شخصيات قابلة للخلود في الذاكرة كما بقيت شخصيات مثل عبد القادر بيك أو إسماعيل الجلبي أو سي السيد المصري أو أبو العلا البشري، أو الحجة فضة المعداوي أو حسن أرابيسك، بل هل تتذكرون في أعمال العقدين الأخيرين العراقية شخصيات مثل الملا فاخر في (جرف الملح) أو شكيب في (فتاة في العشرين) أو أبو جحيل في (ذئاب الليل)؟ هل استطاع كتابنا صياغة مفارقات درامية سوداء تعصى على النسيان كما فعل سليم البصري في بعض حلقات (تحت موس الحلاق)؟ هل سيبقى في ذهن أحدكم مشهد مثل مشهد قراءة حجي راضي الرسالة لأم غانم؟ هل استطاع كاتب صياغة ملامح شخصية داخلية متفجرة مثل ابراهيم في (النسر وعيون المدينة)؟

كلا طبعا. لم يستطيعوا ذلك لأنهم يعومون في السطوح لا في الأعماق، وعذرا لمن مسته المقالة، وهم أغلبية الكتاب، مع الاحتفاظ بحق العودة إلى بضعة أسماء تمثل أقلية نادرة نجت من هذه الأزمة، ولنا عودة.