علي رياح
على مدى يتجاوز الثلاثة أسابيع مَضت من شهر رمضان الكريم، تسابق العشرات من أهل الكرة، مدربين ولاعبين سابقين وحكاماً وإداريين، وكذلك جانب مهم من الإعلاميين.. تسابقوا في استدعاء الكثير من الذكريات والروايات والصور والمشاهد التي تركت أثراً عميقاً في العقول وفي القلوب، لينتقل هذا الأثر إلى الألسن، وقد أضحى استدعاء كل ذلك الركام من رقدته تقليداً يرافق بعض البرامج الرمضانية التي حاولت أن تخرج ما أمكن من سياق الجدل اليومي المصاحب للحدث الآني، لترجع بالذاكرة إلى سنوات أو عقود من الزمن مضت. أعادت هذه التجربة على الشاشة إنتاج وجوه بعينها صار حضورها سنوياً، مع محاولة استثارة قضايا وحكايات أخرى لم يجر التوقف عندها في المواسم الرمضانية الماضية، بينما انضمت إلى الشاشة نخبة أخرى لتفتح خزائنها أمام الكاميرا وتعرض مواقف عشتُ أنا شخصياً جانباً منها ولمست وقائعها لمسَ اليد، بينما كان الخيال يذهب بالبعض إلى كسر كل إطار للحقيقة، فاستمعنا إلى روايات عجيبة حاول أصحابها إكسابها الصدقية بوضع المُطيبات والتوابل اللفظية والانفعالية أملاً في رسم وقائع لم تصدر إلا من نسج الخيال. كنت أرصدُ كثيراً مما قيل، وغالباً ما تتيح لي مقاطع الفيديو التي تتناثر بعد العرض الأول على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري اقتطاع لقطات الحوار المثيرة التي تلهب المشاعر، ويتفاعل معها جمهور السوشيال ميديا، لتحظى هذه المقاطع بما صرنا ندرج على تسميته (التريند) الذي يستأثر بالإعجاب والتعليق والمتابعة والمشاركة.
وسط هذه الرغبة المحمومة في سرد وقائع حقيقية مرة، وفبركة وقائع مصطنعة مراتٍ أخرى، ازداد سباق التريند شِدّة بل ضراوة، فرفع بعض الضيوف سقف المبالغة والابتكار إلى درجة غير مسبوقة، وصرتُ أشاهد عند كل صباح حُزمة من المقاطع الفيديوية التي لا صلة لها بالوقائع الأصلية، ولا ارتباط لها بأحداث ما زال أبطالها يعيشون بيننا، إذ لا يتعدى عمرها الثلاثين أو حتى الأربعين سنة في أبعد الاحتمالات، فكيف الحال لو تمّ الحديث عن واقعة لها عمر زمني أبعد؟!. لقد تراكمت بعض الشهادات الرمضانية التلفزيونية خلال السنوات الأخيرة بشكل يثير الخشية على ذاكرة جيل أو أجيال ستأتي، وهنا يكمن الخطر المُحدق الذي ستحمله هذه (الشهادات) لأجيال ستأتي.. لنتخيل الحال، مثلاً، بعد عشر سنوات، حين يدخل صغار اليوم إلى موقع مثل يوتيوب ليشاهدوا رواية تلفزيونية لا أصل لها أبداً جرى توثيقهاً على هذا النحو تلفزيونياً، وصارت جزءاً من نسيج وسيلة التواصل هذه.. هل ستنفع عندها أية مراجعة؟.. هل سيتكفّل أي تصحيح بإزالة أثر هذه الشهادات (المضروبة) التي سيرثها صغار اليوم في المستقبل؟. مئات من الساعات التلفزيونية ملأت الفضاء التلفزيوني الرمضاني، كثير منها كان نافعاً ومُجدياً وممتعاً، لكن بعضها لم يكن خاضعاً للتدقيق أو التصحيح أو المراجعة على الهواء مباشرة.. هذه الساعات ستأخذ مكانها على كثير من وسائل التواصل الاجتماعي بكل ما تحمله من مبالغات وتحريفات، والوصول إليها لا يستدعي إلا كبسة صغيرة.. وبعد أن تمرّ الأعوام سيكتسب أي منشور شهادة البقاء والصدقية، وسيُجادل المشاهد بأن كل ما نُشر صحيح، وسيكون من المستحيل تجريد التفاصيل من الوهم والخيال، لتعود إلى سياقها الأولي الحقيقي.