محمد غازي الأخرس
غريبة ومتضاربة مشاعري تجاه المطر، أخاف منه وأحبه، أنتظره بفارغ الصبر، وحين يأتي مدراراً أبرم منه وأبتهل للباري بأن يتوقف. ولئن أدهشني دائماً بروعة قطراته وهي تنزل من السماء، فإنه لطالما حيرني وأثار فضولي في الطفولة: من ذا الذي يرش علينا المياه من أعالي السماء؟ هل هم الملائكة الموكلون بالغيث أم هي قوى غير ذلك تقوم بالمهمة؟ يحتد مثل هذا التساؤل دائماً مع نزول المطر بشكل قوي ومباغت، فيربك العالم، وتفيض معه الشوارع والدرابين، ثم تتحول المدن الفقيرة إلى مستنقعات. في طفولتي، كانت منطقتنا، جميلة الثانية، تفيض كلما زخت السماء بغزارة، ما هي إلا ساعات حتى تتحول المنطقة إلى بحيرة يصعب اجتيازها، لذلك يلجأ الناس إلى حل وحيد وطريف، وهو أن يتحفوا ويضعوا أحذيتهم في أكياس، ويخوضوا في المياه حيث الشوارع لم تكن قد بلطت بعد في السبعينيات. فإن وصل الواحد منهم إلى الشارع العام الرابط بين ساحتي (55) و(83)، أخرج حذاءه وجواربه وارتداهما. كنا، نحن الصغار، نفعل ذلك حين نذهب إلى المدرسة الواقعة في قطاع (60). كنا نخوض في المياه حفاة، مغامرين بأن نعرض أقدامنا لبقايا الزجاج المكسور أو المعادن المهملة. وما إن نصل إلى المدرسة حتى نغسل أقدامنا ونلبس جواربنا وأحذيتنا. وإذ نلحظ بعض التلاميذ يدخلون لابسين جزمات طويلة سوداء، نشعر بالحرج ونغبطهم، ولطالما توسلت أنا بأمي كي تبتاع لي جزمة دون جدوى.
لعل هذه السيرة الطويلة مع المطر خلقت لديّ خوفاً دفيناً تجاهه، فهو من القوة والجبروت بحيث يشكك أمثالنا، نحن سكنة الهوامش غير المعبدة بسوى الفقر، بقدرتنا على التعاطي معه، فهو متسلط، عنيف، وذو ذراع ضاربة، ومن هذا الأساس تشكلت صورته في متخيلي بوصفه جبارا مخيفاً.
هنا، لا يمكنني نسيان تلك الحادثة العجيبة حين أنقذني المطر من موت محقق؛ شتاء عام 1984، ساقني "الرفاق" من أصحاب بدلات السفاري إلى هور الحويزة كمقاتل مسكين في الجيش الشعبي. لم أكن قد تجاوزت السابعة عشرة من العمر، لكنني مع هذا وجدت نفسي هناك، في الساتر الأول المطل على الهور. وفي ذات ليلة لا تنسى، وجدتني مثل جرذ صغير، أحتمي أثناء واجبي تحت سقف نقطة الحراسة مع زميل آخر. كانت السماء تزخ زخا لم أصادف مثيلا له، الحالوب يضرب سقف الموضع الصغير وكأنه الرصاص. ظللت أعد الدقائق بحبات مسبحة القلق آملًا أن ينتهي واجبي وأعود إلى فراشي في الموضع. ولما أنهيت نوبتي، اندسست تحت الغطاء مرعوبا من عنف الطبيعة. بعد دقائق تناهت إلى سمعي طقطقة قطرات متصلة تضرب القصعة المتروكة في ركن الموضع. لم يخطر في ذهني أن الموضع يتداعى آنذاك، وما ذلك الخيط المتواتر من القطرات سوى جرس إنذار بانهياره الوشيك. خرجنا لنستكشف الأمر ففوجئنا بالموضع وقد تهدل كتفه من ثقل المياه. سارعنا إلى إخراج يطغاتنا وأغراضنا وأبلغنا الضباط الخفر، فاتخذ القرار بأن نتوزع بين مواضع زملائنا في القاعدة السادسة المتجحفلة مع اللواء (703). وجدت أنا مكانا في موضع قريب، و"دحست" جسدي بين صديقين. لم ننم ليلتها، بل ظللنا نغني ونمرح بانتظار الصباح، للبدء في بناء موضع جديد. وفي الفجر، توقف المطر، فاستبشرنا خيراً. لكن بعد هنيهة، اهتزت الأرض بقذيفة سقطت في مكان قريب جداً. هرعنا لنستكشف أين وقعت القذيفة، فإذا بها أحالت موضعنا المتداعي الذي تركناه إلى ركام، كانت قد سقطت وسطه تماما لتحوله إلى أطلال. نعم، حدث ذلك، في تقدير عجيب أو مصادفة كتبت لنا عمراً جديداً. أنقذنا المطر الغاضب من ميتة محققة، ولو لم تزخ السماء ساعتها لذهبنا إلى عالم الأبدية دون أن ندري، ويا عجبي!