الدراما وغياب الإقناع

الصفحة الاخيرة 2024/04/14
...

محمد غازي الأخرس
حسناً، فلنقلها كخلاصة لما سيأتي في هذا المقال؛ الدراما العراقيَّة تفتقرُ لأهم أسس النجاح وهو إقناع المتلقي بأنَّ ما يراه يحيل إلى مجتمعه، من نبرة صوت الشخصيَّة إلى الدشداشة التي ترتديها.

المقصود هنا الواقعيَّة بكل تمثلاتها ومجالات تحققها، ابتداءً من رسم ملامح الشخصيات واكسسواراتها الخارجيَّة، إلى الثيم والأنساق الفاعلة في المجتمع، وليس انتهاءً باللهجة والحوار بين الشخصيات، ناهيك عن نوع القصص التي تجسد.

لن نتحدث مثلاً عن صراع الطبقات والهويات الفرعيَّة الذي نادراً ما ينتبه له المؤلفون، ولا عن الثقافات المحليَّة التي تغيب عن الدراما، إنَّما نكتفي هذه المرة بالحديث عمَّا يمكن تسميته بـ"التنوع البيئي واللهجي" الغائب بشكلٍ شبه تامٍ عن الدراما المحليَّة.

ما هو التنوع البيئي واللهجي؟

إنَّه تنوع البيئات واللهجات في البلدان التي تتميز بالثراء البيئي والجغرافي والطبقي والاجتماعي مثل العراق وسوريا ومصر، والمعنى يتجاوز المستوى السطحي الظاهر الذي يردُ إلى الذهن من هذا التنوع، أي اختلاف اللهجات والبيئات فقط، بل يشمل المستوى الأعمق كاختلاف أنماط الشخصيات أو نوع العلاقات الاجتماعيَّة والقيم، فابن الريف الجنوبي مثلاً يختلفُ عن ابن الريف في المنطقة الغربيَّة، وقد يصلُ الاختلاف حتى داخل المنطقة الواحدة أو الطبقة ذاتها، الحضري البصري يختلفُ عن الحضري الموصلي، والأخير يختلف عن التكريتي أو البغدادي، كذلك ابن ريف الناصريَّة يختلفُ عن ابن ريف النجف، بل إنَّ التاجر الكربلائي يختلفُ عن التاجر النجفي، ويتجسد الاختلاف في القيم والأعراف، فضلاً عن اللهجة والاكسسوار والروح الشخصيَّة للجماعات أو ما يسميه الباحثون بنفسانيات الشعوب، كبرودة الإنكليزي أو رومانسيَّة الفرنسي. 

الحال أنَّ هذه المشكلة ليست جديدة علينا، فمنذ السبعينيات، ساد التنميط على الدراما بحيث اقتصر عندنا الريف مثلاً على اللهجة والقيم الجنوبيَّة فقط، ولم نصادف شكلاً آخر له.

فليدلني أحدٌ على عملٍ درامي عرض لنا صورة لريفي من المنطقة الغربيَّة بقيمه وروحيته، أو هل يتذكر أحدكم عملاً عن مجتمع رجال الدين في النجف أو مجتمع الصيادين في البصرة، أو المجتمع السري للمهربين في السماوة، أو الغجر هنا وهناك؟

لكم تمنيت شخصياً أنْ أتابعَ عملاً تدورُ أحداثه في حارات الموصل أو جزر شط العرب أو محلات المسيحيين ببغداد، كم رغبت ثقافياً في التعرف على الحياة السريَّة لبائعات القيمر أو السمك أو مجتمع معامل الطابوق. 

هل فكر مؤلفٌ دراميٌّ عراقيٌّ في الغوص في حياة عوائل صابئيَّة كجيراننا في منطقة جميلة الثانية.

غالباً ما نصادف ذلك في الأعمال السوريَّة والمصريَّة، ففي الحارة الواحدة، ويمكن أنْ ترى عائلة حلبيَّة وأخرى من دير الزور، وقد لا يشير المؤلف إلى ذلك بشكلٍ سطحي، يكفي أنْ تتحدثَ الشخصيَّة باللهجة الحلبيَّة لتعرف ذلك، ويجري الأمر نفسه في الأعمال المصريَّة.

قد تسمع هذه الشخصيَّة تقول: "احنه بنحبوكو" لتعرف أنها اسكندرانيَّة، وهو ما نفتقده تماماً في الدراما العراقيَّة.

أي والله يا سادتي، حلم حياتي أنْ أسمعَ شخصيَّة عراقيَّة تقول "انطيالي" لأعرف أنها كظماويَّة المنحدر، وما هذا سوى مثالٍ بسيطٍ على ما هو أعمق وأشد تأثيراً. هذا بعض ما خطر في ذهني، ولنا عودة فانتظروني.