الفنان يوسف الناصر . . الرسم من المسافة صفر بمواد سريعة الاشتعال

ثقافة 2024/04/17
...

حاوره: عدنان حسين أحمد

لا يحتفي الفنان التشكيلي يوسف الناصر بمدرسة معينة ولا يتقيّد باشتراطاتها فهو من القلّة النادرة من المبدعين المختلفين الذين يراهنون على الشكل والمضمون في آنٍ معاً وهو رهان عسير يكشف عن دواخل فنان جريء يفكر ويعيش الحياة في أقصى لحظات عنفها ليرسم لنا هذه المرة من “المسافة صفر” التي استدعتنا لإجراء هذا الحوار المعمَّق الذي يستنطق الفنان والإنسان المفكر في آنٍ معا.• ماذا تعني لك (حافة الضوء) ومنذ متى بدأتَ تنغمس في ثنائية الضوء والظل كتقنية بصرية تُؤازرك في الولوج إلى غابة الأسئلة الفنية والفلسفية إلى حدٍ ما؟
 ( حافة ضوء ) هي الجزء الفني من تجربة حياتية عشتها جسدياً ونفسياً بين عاميّ 2021 و 2022، وكانت وسيلة اتّبعتها لإخراج نفسي إلى الضوء وإقناعها بالمضي في مشروع الحياة، وأنّ هناك أفقاً ما وإنْ كان بعيداً يستحق العيش من أجله. هي إذاً ليست مشروع رسم كما اعتدت أن أفعل مع الرسم. كانت تلك الفترة قاسية عليّ بشكل استثنائي لم أشهد مثلها في سلسلة مواسم القسوة التي عشتها دائماً. ففي تمريني على تحمّل الأذى أُهدهد نفسي بأنه لا يمكن لهذا الليل أن يكون بلا نهاية، وهذه البلوى بلا انقطاع. أعبر يومي منتظراً أن يصير أمساً وأن يخرج من روحي ويستقر على بعض رفوف الماضي المسمومة. أجلس بين أوراقي ودفاتري وأصباغي وفي روحي شك مما يمكن أن يفعله الرسم فتخرج تخطيطاتي ورسومي من قعر الأسى مدعوكة، ملتبسة، ومضطربة. لم يكن الأسى ضيفاً غريباً على مرسمي، لكنني كنت في السابق أقف على جمر وأرسم في ماء، أمّا الآن فلا ماء عندي. بين طيّات وساوسي تتراءى لي أحياناً نجمة الصباح، تلمع وكأنها تضحك. لا تنشر ضوءاً سوى أنها بشارة الضوء. تسير في تلافيف الظلمة، لكنني أعلم أنها تجر الضوء الضنين خلفها. إذن فلنرسم ما تنيره حافة الضوء هذه أو نرسم حافة الضوء ذاتها لعلّنا نقبض على روحها كما قبض رسام الكهوف على روح النمر المخيف. نحن الآن أمام ظل أبدي وضوء زائل،( الظلام هو الأمّ )، ما إن يخفت الضوء حتى تعود الكائنات لظلامها السرمدي. هل يقدر رسام أن يغفل عن ذلك؟ أبدأ بالظل وأتجه للضوء. الرسم بالحبر عكس الرسم بالزيت، ففي الحبر تبدأ بالضوء وتضيف الظلّ، النور أولاً والعتمة تالياً. في مرسمي أبدأ بالعتمة ثمّ اُقطّر النور. الظل والضوء حروف هجاء الرسام ومادته الأولى.

•   ما المدرسة الفنية التي تستجيب لتطلعات الفنان التشكيلي يوسف الناصر على الرغم من هيمنة المنحيين التعبيري والرمزي على أعمالك الفنية المعاصرة؟
أحاول أن أعتبر نفسي رساماً حراً، وأعني الحرية في كل ما يتعلق بعملي الفني ورؤاي وممارستي للرسم . درت في حريتي بين طروحات كثيرة وطرق تعبير وأماكن إقامة وعبور للفنانين فرأيت أن معظم مدارس الفن واتجاهاته تظهر وتختفي، تدور وتدور لكنها تعود للنقطة الأولى، الموضع الأبدي القائم ما قامت النفس ولواعجها، حيث رسم إنسان الكهف، ورسم الطفل، ورسمت الروح الحرة .  كل مدارس الرسم ( وهذا واضح من اسمها ) تضع رؤى وأفكاراً معينة وترسم دروباً عامة لبلوغ تلك الرؤى، لكنها تترك للفنان ابتداع وسيلته الخاصة وأسلوبه الذي يتناسب مع حرفته وثقافته للسير مع تلك الأفكار. أخاف من الرسّام الذي يعمل ( طبقاً للكتاب ) كما يُقال، وأُشفق عليه أحياناً. عندما رجعت للبصرة بعد أكثر من ثلاثين عاماً والتقيت باصدقاء وزملاء من الفنانين وشاهدت المدينة الخَرِبة المتداعية وناسها المتعَبين الفقراء؛ المدينة التي تركتها عامرة وجميلة، تراجعت في نفسي مساحة القبول لبعض الأفكار والممارسات الفنية التي لا تحدق عميقاً بالحياة من حولها ولا ترى الناس، وهنا لا أتحدث عن فنانيّ البصرة أو العراق، بل في أي مكان آخر، إذ أني أفهم أنّ أمام رساميّ أوروبا، مثلاً، هوامش للعب والعبث التي لاضير فيها، لكني لا أفهم ذلك عند رسام عاش سنوات طويلة من العذاب ويعيش الآن في جحيم مغلق، يتذوقه ويلامسه وينام معه كل يوم  ويلتقي في كل مكان بالوجوه المنهكة والهيئات الحزينة أن يرسم تهويماتٍ وصوراً مائعة ولوحات ألاعيب حروفية وحنقبازيات تراثية وغيرها. ربما يكون مفيداً في ظرفنا الراهن دراسة تجارب التعبيريين الألمان فربما وجدنا فيها بعضاً من رد اعتبار لأنفسنا من قسوة حياتنا، وخصوصاً حياتنا في البلد المنكود، العراق .    

•  أخذت الحرب الظالمة على غزة جزءاً كبيراً من اهتمامك وقدّمت في أثنائها رسومات كثيراً انضوت تحت عنوان الرسم من (المسافة صفر) هل لك أن تتوسع في هذه الفكرة وتوضّح أبعادها الفنية والإنسانية؟
لم تهدأ روحي ولا عقلي مذ بدأ الهجوم النازي على غزة إلى اليوم. تخربت أيامي ونبتت عشبة مرّة في ريقي، لأسباب نشترك بها جميعاً وأسباب خاصة بي، فقد عرفت الفلسطينيين عن قرب وعملت وعشت بينهم سنوات طويلة، ولي أصحاب ومعارف من غزة، الفلسطينيون هم الذين حمونا وآوونا عندما هربنا من ظلم البعثيين في العراق. لا أكاد أجد كلاماً أمام هول القسوة . لم تعد الصفات القديمة في لغتنا تليق بما يحدث. تحولت اللغة العربية عندي إلى حائط بارد وعالٍ. أظن أن أحد دروس القتل في غزة هي أن نعيد تفكيرنا في لغتنا، أن ننحت كلمات جديدة تصف أفعالاً جديدة لم تر البشرية مثلها من قبل، لم تعد كلمات من مثل نازيين ومجرمين ومتوحشين وغيرها تفيد في شيء لإشباع الحاجة إلى القول. فظائع النازيين تركت لنا صفتهم لكل ما شابه مجازرهم، والآن لابد من كلمات جديدة، ربما نشتق من الصهاينة صفات جديدة، (الصهينة والأسرلة ) ربما. ولأني كنت، وما زلت، بحاجة إلى الصرخة تطلع من أعمق نقطة في نفسي وليس لصورة تلك الصرخة أرسمها على ورقة، فقد كنت أريد أن أفعل شيئاً بيدي، أن أصيح وأن أشتم وألعن وأبكي.
بين رسم الصرخة والصرخة ذاتها تقع مسافة التأمل والتريث ومحاولة إعطاء المران الأكاديمي فرصته في البناء والمراجعة تلك التي تعمل مع العقل البارد المتأمّل والذي لابد منه في مختلف أنواع الفن. في هذا المشروع بحثت عن إيقاع الحدث على سطح الورقة وحاولت الوصول إلى أقرب نقطة منه، ليس بمعنى تصويره بواقعية مطابقة كما يفعل رسامو الحروب ولا من أجل التقاط صورة فوتوغرافية له، وإنما بمعنى الاقتراب والاندماج بالحدث وجدانياً وروحياً وتصويره بأقل ما يمكن من الأكاديميا، والتحديق فيه بقوة لا تترك مجالاً  للعين لترى ماعداه.

• هل صادف أن عُدتَ إلى لوحة مُنجزة لتُعيد تشكيلها وصياغتها من جديد أم أنك مازلت ترسم من “المسافة صفر”؟
بعض الروائيين والشعراء وحتى الرسامين يتركون منتوجاتهم فترات طويلة قبل أن يعودوا إليها لتقيّيمها وإعطائها صيغتها النهائية. عملت عكس ذلك تماماً. اليد تعمل على هواها، بما تجده متناسباً مع وقع الحدث وحدّته وهوله، خصوصاً وأنني تعرضت لأحداث كهذه في الحرب الأهلية اللبنانية ومررت بأوقات مخيفة وذقت مرارة الاقتراب من الموت والوقوف أمامه وجهاً لوجه. أثناء العمل وجدت أن أكثر ما يناسب تلك الطريقة هو التعبير الذي أُطلِقَ على طريقة تصدي المقاتلين الفلسطينيين للنازيين الصهاينة أثناء العدوان على غزة ( القتال من مسافة الصفر ) فسمّيتهُ ( الرسم من مسافة الصفر )، حيث لا فسحة للتأمل بين الرؤية والألم، بين الرسام وقلبه. تقنياً أرسم بمواد سريعة وسهلة تتناسب مع إيقاعي المتوتر أثناء العمل، أُسميها سريعة الاشتعال، كأقلام الرصاص والحبر الملون على أوراق صغيرة الحجم غالباً تتيح الانتقال من مشهد لآخر بسهولة.