قصة حضارتين

الصفحة الاخيرة 2024/04/18
...

د. طه جزاع
يعرف كلُّ مهتم بالعلاقات العربيّة الصينيّة، بأنّها قديمة جداً، ربما تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، يوم وصلت السفن الصينيّة إلى عدد من الموانئ المطلّة على المنطقة العربيّة، وأشهرها الأبلّة والبصرة وعدن، وصحار العُمانيّة، ثمّ استمرت عبر القرون اللاحقة، حتى عصر الرسالة الاسلاميّة، وما أعقبها من فتوحات وتمازج بين شعوب وحضارات العالم القديم. غير أن تلك العلاقات اقتصرت غالباً على العلاقات التجاريّة المتبادلة، من غير أن تتعداها إلى الجانب الثقافي. وحتى بعد وصول الإسلام إلى الصين بفضل التجار العرب والفرس والترك - ومنهم من اختار البقاء في الصين والزواج وتكوين الأسر الصينيّة المسلمة التي هي نواة المسلمين في الصين- فإنّ هؤلاء لم يضطروا إلى ترجمة الكتب الدينيّة والأدبيّة لأنهم كانوا يقرؤونها بلغاتهم الاصلية، أو باللغة العربيّة التي يجيدونها، غير أنّه بمرور الزمن قام عدد من المشايخ الصينيين الذين يتحدثون العربيّة، بمحاولات ترجمة كتب التفاسير والفقه وغير ذلك من الكتب الإسلاميّة، فضلاً عن جهدهم المتواصل لترجمة معاني القرآن الكريم. وترجمة القرآن، مثار قبول أو رفض بين علماء الدين والفقهاء واللغويين، فمنهم من يجيزها، ومنهم من يجدها غير ممكنة أو مستحيلة، مثل أستاذ النحو والتعبير القرآني د. فاضل السامرائي الذي أشار في واحدة من لمساته البيانيَّة إلى أن القرآن الكريم فيه تقديم وتأخير ومرادفات ومبالغات، فكيف على سبيل المثال تُترجم غفار وغفور، وهماز وهمزة، وهل يفرقون بين الرحمن والرحيم ودلالة الرحمن غير دلالة الرحمة؟ وحتى الترجمة إلى اللغة الإنكليزية فإنه يوضح بأن اللغات قسمان، معربة ومبنية، والإنكليزية مبنية، وهي تأتي ضمن نسق واحد لا تستطيع أن تقدم فيه أو تؤخر، وكل كلمة تحمل موضعها في المكان. أما محاولات ترجمة القرآن إلى اللغة الصينيّة، فإنها كثيرة، لكنها كلها متأخرة جداً مقارنة بالوقت المبكر لدخول الإسلام إلى أراضيها قبل نحو ألف وثلاثمئة سنة. 

في الكتاب المهم الذي أصدره بيت الحكمة ببغداد قبل أعوام "العرب والصين قصة حضارتين" إشارات تفصيليَّة لتلك الترجمات، فهذا الكتاب الذي قدمت له خديجة حسن جاسم، يتضمن عرضاً وافياً للعلاقات الحضارية العربيّة الصينيّة، وأثر اللغة العربيّة في اللغة القوميّة لمسلمي الصين، فضلاً عن فصل كامل عن مراحل ترجمات معاني القرآن إلى اللغة الصينيّة، ابتداءً من أول ترجمة صدرت عام 1927، وصولاً إلى آخر ترجمة صدرت في هونغ كونغ العام 2011، وهي الترجمة الثامنة عشرة لمعاني القرآن الكريم وتفسيره باللغة الصينيّة. يبدو الباحث الصيني شوي تشينغ قوه، مثل عاشق متيم وهو يتحدث عن تعلّمه اللغة العربيّة، وتعلّقه بها، حتى بات يكتب بحوثه بالعربيّة ثم تترجم إلى الإنكليزية أو الصينية، ومنها بحثه الموسوم "الأدب العربي في الصين" الذي أشار فيه إلى قصيدة البُرْدَة، ومنذ أوائل التسعينيات ترجم عشرات الأعمال لأدباء عرب من روائيين وشعراء معاصرين، ومن شدة إعجابه وتأثره بأعمال نجيب محفوظ فقد التقاه في القاهرة عام 1987، كما أصبح صديقاً لأدونيس، وكذلك قرأ وترجم لجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، والسيّاب والبياتي وعبد الصبور وأمل دنقل ونزار قباني ومحمود درويش وسعدي يوسف والطيب صالح وغيرهم الكثير، وقبل ذلك كان قد اطلع على حكايات ألف ليلة وليلة، وقرأها مرات عديدة. عن ترجمة قصيدة البوصيري إلى الصينية يخبرنا أن المترجم الحاج ماده شينغ قد وافته المنية قبل إتمام الترجمة، ولم تتم إلا على يدي تلميذين من تلاميذه ترجماها إلى اللغة الصينيّة الموزونة الكلاسيكية لتطبع وتوزع وتنتشر بين المسلمين في الصين بعد وفاته.