باسم فرات
في مساء يوم أحد من عام 2000 ميلادية، كنت على موعد مع أمسية شعرية لي مع الشاعر الأمريكي {لويس سكوت} في مسرح {باتس} في وسط العاصمة النيوزلندية ولنغتن، حينها كنت أسكن في حيّ {كيلبرني} جنوب العاصمة وقبل مطارها بكيلو متر واحد تقريبًا، تناولت الغداء في شقتي البسيطة، وخرجت مبكرا كي أصل في الوقت المحدد؛ قطعت الطريق وهو كيلومترات عدة، مشيا على الأقدام، فقد كنت مفلسا تماما، ولكنني كنت سعيدا، لأن ثمن تذاكر أمسيتي الشعرية قد نفدت، وكان سعر التذكرة لذوي الدخل المحدود عشرة دولارات، ولغيرهم أثني عشر دولارا.
كنت أسير مع إفلاسي بوصفه نديمًا مذهلًا، وحين وصلت ورأيت الناس متجمهرين عند بوابة وفي مدخل مسرح "باتس"، غادرني نصف التعب، دخلت إلى كواليس المسرح، وبدأنا الاستعداد، تحدثت إلى الشخص الذي سيقرأ قصائدي بنسختها الإنجليزية، واتفقنا على التفاصيل. حين خرجت للجمهور، لاحظت أشخاصًا يجلسون على درجات الـمَمَرّ الذي يتوسط القاعة ويربط بين باب القاعة والـمسرح، غمرني الفرح والارتباك، فلم أكن أتوقّع أن القاعة ستمتلئ على بكرة أبيها بحيث هناك من جعل الـممر مقعده.
انتهت الأمسية، واستمتعنا بالتصفيق الذي هو شهادة بأن ما قدمناه نال استحسان الجمهور، وما لم يخطر ببالي أن صديقي وشريكي في الأمسية الشاعر "لويس سكوت" أخبرني "سنتوجه إلى المطعم القريب لتناول العشاء" أبديت موافقتي على مضض، وخرجت كلمة "حَسَنًا" مني مبتلة بالحنظل، فكيف لي الذهاب إلى المطعم وأنا أنتظر الأربعاء على أحر من الجمر، لأنه اليوم الذي تنزل مساعداتنا الأسبوعية نحن العاطلين عن العمل، وكنت حينها أعمل متطوعًا في شركة بيت الكاميرا "كاميرا هاوس" من أجل كسب شهادة خبرة في نيوزلندا.
كان الجميع يتحدث بفرح، ويتحدثون معي وأنا أصطنع الفرح، فلا مكان للفرح مع الإفلاس، كنت أتأمل حالتي بعد العشاء ولحظة الدفع، كيف سأدفع ثمن عشائي، بكل تأكيد سأضطر لأن أستدين من "لويس سكوت"، هذا لو وافق على أن يدفع عني وأعيد المبلغ له بعد استلام نصيبي من أثمان تذاكر الأمسية، حتى لو فرضنا أنه سيوافق – هكذا أحدث في السرّ نفسي – لكنها تلك اللحظة اللعينة، أقسى اللحظات على الإطلاق، لحظة أن ينطق لسانك وكلك خجل وانكسار بل هزيمة شنعاء، بأن يمد صاحبك يد العون فيدفع عنك ثمن طعامك؛ الإفلاس حالة مدمرة، لكنها تختال بالبشاعة حين تكون وسط أصدقاء وأصحاب ومعارف يحتفون بك وبنجاحك، وأنت لا تملك ثمن وجبة طعام.
قضينا أكثر من ساعتين، طلبت خلالها عشاء بسيطًا، ولم أطلب "مشروبًا" لا باردًا ولا ساخنًا مع الطعام أو بعد العشاء، أعترف بأنني أقل شخص كانت تكلفة جلوسه في مطعم لأكثر من ساعتين، مقارنة بكل الحاضرين، الذين بعضهم طلب قنينة نبيذ ـ ولكنَّ آخرين اكتفوا بكأس أو كأسين أو زجاجة جِعَة أو أكثر، ولأني من عشاق احتساء الشاي، فقد اعتدتُ تناوله بعد كل وجبة طعام مهما كانت متواضعة، لكن في تلك الحال.. زادت رغبتي به لدرجة وكأنني مدمن مثل مدمني المخدرات، لكن إفلاسي كان حائلًا بيني وبين أن أطلب فنجان شاي، أُطفِئُ به رغبتي. كان الوقت يستنجد بالسلحفاة أن تبطئ من سرعتها، وأنا أتلوى من القلق، فلحظة جلب وصل الدفع، هي اللحظة التي سترمي كل شيء للأسفل، أنا المحاط الآن بالصديقات والأصدقاء، وبفرحة نجاح أمسيتنا التي لم نكن نتوقعها، لأن الشعر بضاعته كاسدة كما هو مشاع ومستقر في الوعي الجمعي، ولم أعدم تلك النظرات لأكثر من امرأة في الجلسة، ولكني كنت أردّ عليها بالتجاهل مرددًا مع نفسي: آهِ لو تعلمن أن محفظة نقودي هي الآن محفظة أوراق لا أكثر، وأن الإفلاس يُتعب حتى الحب نفسه.
على امتداد أكثر من ساعتين، كنت أعيد هذا السؤال بلا جواب: لماذا تأتي الأشياء ناقصة، والأفراح ناقصة، والانتصارات حتى الصغيرة منها ناقصة؟!، ولأن منسوب القلق والحزن ارتفع كثيرًا في تلك الجلسة، وجدتني أزداد إيمانًا بأن الذين تشوهت طفولتهم باليتم والحرمان، لا بدّ أن تُنغّص سموم الطفولة الـمُخَــرّبـَـة سعاداتهم ولحظات نجاحاتهم، وطوال الوقت في الـمطعم، كنت أسرق نفسي من أحزانها، وأحاول أن أندمج مع الأصدقاء والمحتفين بنا وبنجاحنا، ولكن لعنة تذكر كل ما مَـرّ من خيبات وجراح وآلام وخسارات، كانت أقوى، فكنت أعيش صراعًا بين سطوتها وبين محاولة خروجي منها لأكون مع الصديقات والأصدقاء. إن أكثر المواقف صعوبة، تلك التي تضطرك لأن تمد يدك، حتى لو على سبيل الاقتراض، هكذا قضيت الوقت حتى قررنا الخروج، فطلبوا قائمة الحساب، وهنا انتابني الهلع، وحين استلمها الشاعر لويس سكوت، التفت لي قائلًا: سأدفع عنك وأخصمها من نصيبك من أثمان تذاكر الأمسية، كان وقع كلامه علي كالمطر على أرض ظمأى، فتهللت سرائري وشعرت بأن همًّا ثقيلًا للغاية أزيح عن صدري، لم أغيّر ملامح وجهي قدر المستطاع كي لا يكتشف أنني مفلس، وقلت له: كما تشاء، فدفع وخرجنا من المطعم.
إحدى الصديقات، وهي صديقة مخلصة للويس سكوت وهي "جيرالدين"، أوصلتني إلى البيت مشكورة، وكان رقم شقتي (79) في شارع (كيمب) في حيّ كيلْـبَرني، ولكن ما إن ودعتها وسرت باتجاه العمارة لأصعد السلالم، حتى بدأت أُقَـرّع نفسي وألومها، لأنني لو انفردتُ بلويس سكوت قبل الدخول إلى الـمطعم، لكنت استمتعتُ تمامًا وتذوقت طعم النجاح، وهو ما حدث بعد عامين ونصف، إذ إن فعاليتنا الشعرية كانت في الأول من شهر تشرين الأول "أكتوبر" عام 2000 ميلادية، وبقيت عالقة في ذهني لأنه اليوم الذي تم فيه تغيير التوقيت من الشتوي إلى الصيفي، في حين كان الوضع مختلفًا في شهر شباط 2003 ميلادية، إذ كنت أعمل براتب أسبوعي، ولهذا استمتعت كثيرًا بالعشاء وفرح النجاح وبهجته. أعني قراءتي الشعرية مع الشاعر لويس سكوت أيضًا، في مسرح القديس يحيى "جون"، في وسط العاصمة وَلِنْـغْـتُـن ليس بعيدًا عن مسرح باتس.
لقد غادر الجميع وظفرت بعزلتي، رحتُ أتقلب بين نقيضين، فخرٌ بما أنجزت في هذا الـمساء، وما تعرضتُ له من موقف بسبب شحة الـمال، ولم يكن سواي معي، أعددتُ الشاي، وأنا أحتسيه، اختلطت دموعي به، وكأنه قدرٌ أن تغشاك كل ذكرى أليمة مررت بها يا صاحبي يا نفسي يا أنا، قلتُ، وأطفأت النور.
ملحوظة: مسرح باتس لا يعني مسرح الوطاويط، إنما هو مختصر لهذه الكلمات: جمعية بَيْن وأُستِن السياحية
(Bayne and Austin Touring Society)