علي لفتة سعيد
استثمر الفنان المسرحي مهدي هندو الوزني قصائد الشاعر موفق محمد المحتشدة بالحزن العراقي المعتّق.
لينتج مسرحيةً بعنوان "مليءٌ بالأوجاع" وهي منودرامية، من تمثيل ياسر السيلاوي.
وقد كانت مسرحية مليئة بحزن يتعاطف مع الداخل العراقية، وكأنه بديل عن صراخ المتلقّي.
اللقطة العليا للعمل تناغم بشكل كبير وعاطفي الأوجاع العراقية، لكنها غرقت في العاطفة المباشرة.
بل كانت تأتي عبر حواراتٍ مقصودة، سواء تلك التي استلت من قصائد محمد، أو التي وضعها المخرج والمعد الوزني.
المخرج لم يقم بجعل النص المسرحي متّكئًا على قصائد موفق محمد كليًا، بقدر ما جعلها كإطار عام، لما يريد بثّه من أفكارٍ داخل عرض جعل مساحته على قدر خشبة المسرح، من خلال ثلاث حركات مهمة:
الأولى: حوارات المؤلف المبتكرة والتي ارتفعت كثيرا بالنص.
الثانية: النصوص الشعرية التي كانت تأتي على لسان الممثل حين يريد الانغماس بالحزن وبثّ الأوجاع.
الثالثة: حركة الأشياء الموزعة بين خشبة المسرح، وكانت ناطقة غير صامتة وكأنها تتحرّك بمساحات مكانية.
بمعنى أنه انتهج طريقة "أنسنة" الأشياء، أو جعل البطولة الأخرى للممثل تكمن في "الشيئية" حين بثّ الروح في الإكسسوار والديكورات التي أنبأت منذ البداية في أنها أساس حركة الفكرة، التي يراد لها أن تصل، وما حوار الممثل سوى النصوص الشعرية أو القصائد التي بثّها محمد للتعبير عن الأوجاع العراقية.
لكن العرض كان أكثر جرأةٍ أيضا من خلال تحريك الاشياء بحالات عدة، مستغلًّا النصّ عبر تحويله من العاطفة الى بثّ رسائل تحرك الوعي.
العرض الذي قدّمه جماعة "مسرحيون" على خشبة مسرح منتدى شباب ناحية الحر في كربلاء، واستغرق وقتها لما يقرب من النصف ساعة، كانت في حركةٍ دائبةٍ من الصراع مع الذات.
صراع الداخل والخارج الذي أراده الوزني، ليكون ظاهرًا في الحالتين، لا يخفي أحدهما الآخر،
لهذا فإنه بدلًا من الذهاب الى فكرةٍ مسرحيةٍ تكاد تكون مطروقةً في عملية النبش في الأوجاع، وجد في نصوص الشاعر ما يعوّل عليه في مسرحة الثيمة، والارتقاء شعريًا بالحوار تارةً، والعودة الى الذات "الشخصية" تارةً أخرى.
فكانت المراوحة بين النصّ الشعري والرؤية العامة لفكرة المسرحية التي يعتمد عليها، هي منطقة الفضل للقصدية العليا، وهي أن الإنسان لا يكون مقهورًا ولا مليئًا بالأوجاع ولا مجنونًا، لولا ما يحيط به من صراعات مؤلمة وزّعها بشكلٍ متناسق على خشية المسرح.
وعلى الممثل أن يتحرّك عبر خطواتٍ تتابعها الموسيقى، وما يسلط عليها من إضاءة، مثلما تتابعها نظرات المتلقّي، الذي وجد أن بداية العرض قد أنطلقت من خلفهم، لتخترقهم ثم تصعد الى المسرح في عملية أن المجنون هذا الذي جاء صادحًا ضاحكًا باكيًا متمرّدًا خائفًا، جاء منكم وبسببكم، وأن المصير واحدٌ، وهو التأويل الأخير للعمل المسرحي، بعد أن تتبيّن أدوات الفكرة وتقشيرها المسرحي.
إن المخرج جعل المساحة المسرحية مليئةً بالأسمال، والقاذورات، والأوساخ، وبقايا علب الماء، وحاوية نفايات، وقطع قماش بالية، ومنصّة خطابات، ومكنسة،
وعصا.
وما بين الحوار الذي وضعه، وما بين نصوص وأشعار موفق محمد، وخاصة قصيدته المشهورة "لا تيأسن يا حسن" حيث تداخل السينوغرافيا من خلال شاشة عرض حائط المسرح من العمق، حيث تظهر أم مكلومة، حالما يصعد مجسد الشخصية خشبة المسرح، ليتداخل الحزن بالأوجاع، والمصير بالتوحّد، والخسران بالصراع، وكأن المشهد الذي أراده أن يكون منبيًّا عن شخصية أخرى، حتى لا يفقد العرض المينودرامي جنسه، وتلك الأم هي الحضور الدائم للمقبرة، وهي ثيمة الموت المستمرة لدى العراقيين، فيكون السواد وتجاعيد الأم، وتراب المقبرة، والقبر ذاته علامة الوجود الحسّي، وعلامة التأويل الثقافي للمادّة المسرحية.
لتبدأ بعدها عملية المناوبة بين القصائد والحركة المسرحية.
لقد تمكن المخرج من مساعدة شخصية مجنونة تحمّلت عبء عملية الانتقال من الجدّ الى الهزل، ومن العقل الى الجنون، ومن التقبّل الى الرفض، وهي شخصية لا يمكن إلّا أن تكون مجنونة، لأنه لو اختار شخصيةً عقلانيةً أخرى مثلا، فلربما فقدت تلك المنطقة التي يراد لها أن تلعب على وتر العاطفة من جهة، والقدرة على تحريك أدوات المسرح من جهةٍ ثانية.
لذا فإن "الأشياء" تداخلت مع الحركة الممثل وحركة الممثل تداخلت مع النصوص، والنصوص تداخلت مع الحوار.
فالعصا تحوّلت الى رايةٍ، والى قيادة أعمى، والى سلاح بندقية، والى عصا يهشّ بها الأفكار.
والى عصا تطارد الخوف والسراق والفاسدين، فيما تحوّلت المنصّة التي يلقي من خلالها المسؤولون الخطابات، الى مهدٍ نائمٍ على الأرض، ويبدأ الممثّل بتحريكها مثل أم "دللول يالولد يبني دللول" في ترنيمة الحزن التي ترتبط مع بداية المسرحية للأم المكلومة.
فيما كانت الحاوية هي منصّة الخطابات، والمكنسة ذات الذراع الخشبي هي اللاقطة التي تصدح بالأصوات، ليكنسوا من خلالها عقول التابعين.
فيما كانت المنضدة البلاستكية التي وضعت في منتصف المسرح، قد جعلها المخرج مرّة عملية اختباء من الخوف المتربّص، ومرّةً طاولة اجتماعات لا تفضي إلى نتائج السلام بل الى مواصلة الحروب وجمع الخسارات.
فيما كانت الأثواب الممزّقة والقديمة تتحدّث عن الصراع والفقر والمال المفقود، والعباءة كانت مسرحًا لتنقّل الحزن تحت أرديتها.
لقد كان النص المسرحي مكتنزًا ومليئا بالإبداع.. ليكون العرض رغم بساطته وقلّة دعمه وجهد الممّثل الذي كان مناورًا جيدا، حتى في ترتيب الغناء بطريقة الجنون، حتى قصائد موفق محمد كانت يافطةً عليا، فيما كان نصّ التوليف هو الداخل العميق، الذي يسوّر المكان كلّه.
واعتقد أنه كان بالإمكان الاستمرار بعملية تحريك أشياء أخرى، وجعلها مسرحية "شيئية" بامتياز، لأن هناك إمكانية إضافة الكثير من المدلولات التي لا تحتاج الى دليل المعاناة للشخصية العراقية، بل أن من المهم ذكر حالة الغبار التي يتطاير من تحت أقدام الممّثل، وكأنه غبار الواقع العراقي، مع الأخذ بنظر الاعتبار الموسيقى التي كانت للموسيقي الفنان علي جواد.
وكان المكياج قد أضفى على وجه الممثل صدق التعابير، إضافةّ إلى ما يرتديه من أسمال مجنونٍ وهو دور مهم للماكير سيف الغزالي مع توزيع جميل للإضاءة التي تفاعل معها الجمهور وكانت ليونس الخالدي.