سرديات المقهى في اتحاد أدباء النجف

ثقافة 2024/05/22
...

  صلاح حسن السيلاوي 


الأمسية التي أقيمت ضمن نشاطات نادي القصة التابع للإتحاد، ابتدأها الخزرجي بالحديث عن ضرورات الإشارة إلى طبيعة الحمولة الثقافية للنص الأدبي وما يتضمنه من اجتراحات إنسانية أو معرفية، فضلا عن ضرورة تعريف غرضة، وإضاءة قيمه الجماليةِ والفنية، وتفكيك أنساقه وتحليل مضامينه على وفق معايير منهجية دالة لها مفاهيمها التي تستقرئ المبنى الحكائي للنص. وأضاف الخزرجي بكلمته متسائلا: هل ثمة علاقة حسية بين المكان وسياق الحديث؟ هل ما زالت المقهى تضم الحراك الأيديولوجي والاجتماعي؟

وهنا إشارة إلى ثقافة المجتمع وحصانته المعرفية، هل مازالت  مقهى المتنبي  وحسن عجمي وأم كلثوم كذلك الحال في مقهى السماحي في مسلسل ليالي الحلمية عامرة بروادها؟

هل أن التجسيد الفعلي لحقيقة المقهى في هذا الأوان المعلوماتي والتكنولوجي المهول بدأ ينحسر ويترهل؟ ثم قال: كل هذه الأسئلة سيجيب عنها الناقد الدكتور قيس الجنابي في محاضرته، وهو ناقد وباحث وأكاديمي عراقي، صدر له أكثر من أربعين مؤلفا. 

ابتدأ الجنابي محاضرته المعنونة "سرديات المقهى" بتوطئة تحدث فيها عن احتفال السرد العراقي والعربي بالمقهى بوصفه متنفساً للحياة خارج جدران البيوت الصغيرة والضيقة، وبوصفها جزءاً من الحراك الثقافي والسياسي. 

بعد ذلك ذهب لتفصيل قراءته النقدية عن الأوجه التي لمس تلفتها بين مدن وأزقة رواياتٍ وقصص لمبدعين اهتموا بالمقهى بوصفه ثيمة فنية وثقافية فكانت "الوجة الآخر" للراحل فؤاد التكرلي أولى القصص التي تحدث عنها ثم رواية "النخلة والجيران" للروائي غائب طعمة فرمان، ورواية "القمر والأسوار" لعبد الرحمن مجيد الربيعي، وثلاثية "أرض السواد" لعبد الرحمن منيف، ورواية "تل اللحم، قصة مرايا سيد مسلط" للكاتب نجم والي، كما تناول الجنابي في محاضرته بعض المقاهي كمقهى يجتمع فيه العميان وسط مدينة دهوك، ومجموعة من الكنبات في مدخل  السوق الكبير في النجف، يجتمع عليها مجموعة من الصم والبكم، ويتحاورون بالإشارات.

ومما قاله الجنابي عن قصة الوجه الآخر للتكرلي:  تدور الكثير من أحداث القصة في "مقهى حسن عجمي" وعبر سرد بضمير الغائب، الذي يتوزع بين سرد مباشر خارجي وآخر غير مباشر داخلي. 

وقرأ المحاضر شيئا من بداية القصة بقوله:"خطر له حين مرّ أمام مقهى حسن عجمي، أنه سيعود للجلوس عصراً هذا اليوم. لم يكن بعض المتقاعدين المسنين، وكانت أرضها مغسولة نظيفة. وجوها صافياً. أحبّ منذ قدومه بغداد أن يتمتع بجلسة في الصباح يشرب فيها الشاي من الأباريق الأولى، لكن عقربي الساعة كانا بخيلين عليه دائماً بهذه الدقائق القليلة".

وقال أيضا: ترسم قصة "الوجه الآخر" صورة للمقهى بوصفها نبض المدينة، من خلال موقعها في شارع الرشيد، ومن خلال شخصيات المقهى والدائرة والمنزل، وفي الانتقال الى باب المعظم القريب من المقهى تتشكل الرؤى والمواقف في كشف التباين الطبقي وبحث الانسان عن الخلاص.

وعن "النخلة والجيران" قال: سرديات المقهى تتراوح بين وصف المكان وجمالياته، وبين السرد القصصي والروائي، التي جعلت المقهى موضوعاً لها أو جزءاً من فضائها، فقد كان غائب طعمة فرمان سباقاً الى ذلك في روايته "النخلة والجيران" الصادرة عام 1978، فصارت المقهى في ما بعد موضوعاً أو مكاناً تتحرك في فضائه الشخصيات.

ثم أشار الجنابي إلى اهتمام فرمان بمقهى الشواكة في بغداد بقوله: يتابع فرمان  "مقهى الشواكة" فيراقب مصطفى أحمد، الكوفي الأصل، والذي جاء الى بغداد وهو في العشرين من عمره، وتعرض للتسليب ما بين العزيزية ونقطة الشارع، وسلبت أمواله من كوكبة من الفرسان، فالتقى خاجيك؛ وهنا يقول فرمان: التقيا بعد يوم واحد من  زيارة سليمة الخبازة لذلك "الصوب". وكان اللقاء في مقهى في الشواكة يتردد عليه عاطلون يلتقطون أي عمل عابر لقاء وجبة طعام، وسواق سيارات ما زالوا وراء مقاود سياراتهم، وآخرون يحلمون. وكان المقهى خالياً حين جلسا ينتظران حتى سمعا خرخشة الساعة المعلقة على بعد ذراعين من مجموعة السماورات.  فثمة إشارات الى تردي الوضع الاقتصادي وانتشار البطالة.

وفرمان مولع بوصف المقاهي، في رواياته، ومنها روايته "القربان" الصادرة عام 1975، التي كانت على علاقة وثيقة بين المقهى وبين الشخصيات، بحيث يمكن تلمّس تأثير المقهى على المتحرك والجالس فيها وتأثيره على الراوي وعلى الحوار بين الشخصيات. وقد حظيت "مقهى دبش"  باهتمام كبير من لدنه، فوصفها بأنها كانت مضيئة، وجميلة، بكل تفاصيلها، وهي حاوي لزمن جزئي هو ما يحدث فيها، وما ينطلق منها.

وفي حديثه عن علاقة منجز الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي  بالمقهى قال: تمثل المقهى في رواية "القمر والأسوار" للكاتب عبد الرحمن مجيد الربيعي، مصدر الوعي؛ فقد اشترى جبار، صاحب المقهى راديو، للمقهى، في اشارة الى الصراع بين الهامش والمركز، من خلال دور المقهى المركزي في اثارة الوعي، وبين ثقافة الناس التي دفعت المرأة الى ضرب الراديو بالطابوقة وكسره، لهذا برروا فعلها هذا على أنها سمعت صوت أخيها "خضير حسن"، أو "خضير مفطورة"؛ لهذا قالوا إن "في المقهى كل شيء حتى الراديو".

وعندما سأل الشيخ، رمز الطبقة الدينية والإقطاعية ابنه عن سبب تأخره، وكان ذلك في احداث نكبة فلسطين عام 1948، أجابه: كنت مع أصدقائي. نقرأ في المقهى.

وعما رصده من سرديات المقهى في منجز الروائي عبد الرحمن منيف قال: يبدأ عبد الرحمن منيف ثلاثية "أرض السواد" التي يحيل عنوانها الى أرض العراق، أرض النخيل والخضرة، يبدأ ببعض النصوص الأسطورية التي قيلت بصفة مراثٍ للمدن العراقية؛ وهذه البداية تحيل الى العراق وما ينتظره من أحداث مريرة تخرب فيه مدنه، ذلك أنها كتبت بين عامي 1997- 1999، ولتلافي التأويلات المحتملة جعل مرحلتها التاريخية تبدأ من نهاية حكم الوالي سليمان الكبير، بحيث يصبح عهد داود باشا هو مركز الحركة، ومركز الصراعات السياسية داخل العراق وداخل الدولة العثمانية، ضمن مشروع كتابة الرواية التاريخية التي هي "ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة، بل الايقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث، وهو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدت بهم الى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي.

والكاتب واحد من الروائيين الذين يتمتعون بحس تاريخي جليل، وقراءة متبصرة للتراث العربي، ووعي ثقافي متجدد، فكان وعيه بالدور الاجتماعي للمكان جلياً، وقد أولى المقهى اهتماماً كبيراً، وخصوصاً مقهى الشط، والتي شكلت محوراً مهماً في "أرض السواد"، حاول من خلالها قراءة تاريخ بغداد وتاريخ العراق، ذلك أن المقهى هي "جنين كائن في أحشاء المكان، لا يظهر إلا متى توافرت له ظروف جيدة للولادة".

كما وتحدث المحاضر عن سرديات المقهى في رواية "تل اللحم، قصة مرايا سيد مسلط" للكاتب نجم والي، فقال: يشير إلى المقهى البرازيلية بسخرية لاذعة، وهو يتعرض لشخصية الشاعر حسب الشيخ جعفر، ولكنه لم يعد الى ذكرها، ثم انتقل الى الحديث عن "مقهى الأمل" الذي وصفه له رجل أحدب، فأشار الى أنه يتفرد عن المقاهي الأخرى، فقال عنه: "كنت أكره المقاهي صغيراً وامتنع عن المجيء اليها مع أبي، وكنت برغم حس الطفل أعتقد أن عالم المقهى يكتظ بناس غامضين؛ ربما بدخولي المقهى للمرة الأولى، وحدوث ما جعل النفور من المقاهي يتأصل فيّ. فما زلت أتذكر المشهد بصورة معتمة، كيف أن أبي سحبني بسرعة وجرني معه الى الأرض عندما انبطح هو تحت تخوت المقهى؛ كان هناك تراشقٌ بالنيران بين الشرطة ومجموعة أخرى من الرجال".

وبعد تلك الحادثة لم يصاحب والده إلى المقهى، وبقي لسنوات لا يجرؤ على دخولها، حتى تغيّر"عالم المقاهي تغيّراً كثيراً عما كان".