بول أوستر.. عالميَّة الصورة الذاتيَّة

ثقافة 2024/05/22
...

ترجمته عن الفرنسية: هدى حمودة


استقبلنا بول أوستر في بيته Park Slope  في بروكلين، حيث يَعيش سنوات عديدة رفقة سيري هوستفيت، ومعها يشكّل منذ ثلاثين سنة، ثُنائيا عاشقا ومُتماسكا. للتّجاذب الفكري عنده حَيّز كبيرٌ، وكلّ منهما قارئٌ مميّز للآخر. في غُرفة مُضاءة، حيث الجدران مغطاةٌ بالكتب والنّوافذ الزجاجية الكبيرة تُطل على هدوء الشّارع، أجاب عن أسئلتنا بلطف وأناقة، مُستسلمًا لانعطافة الصمت أو التردّد بتحفظ، لكن مع الصِّدق دائما. لا تَخلو من عاطفة، مقابلتنا مع روائي شهير، شغفتنا كتبه وأبهجتنا لسنوات عديدة، وأحيانا خلفتنا جائعين أيضا، لأن التّرقبَ، بالتأكيد، كان أقوى تأثيرا فينا من بَراعة رواياته العظيمة.

مقابلة بمُنتهى الشفافية ودعوة للتَّأمل في ما يُشكّل إنسانيتنا المُشتركة. 



• لَطالما استقَت رواياتك من مَوارد وحي ذَاتي، وفي كثيرٍ من أعمالك نَجد تلاعباً بالهويّة أو أسماءِ شخصياتك. حكايةُ الشّتاء هذه، أهي حقًّا بيوغرافيا كلاسيكية؟

نعم، بالتأكيد، كل شيء هنا حقيقي، ولا مكان للاختلاق. 

تتطلّب السِّيرة الذاتية عَقدَ اتفاقٍ مع القارئ والالتزام بقولِ الحقيقة؛ لذا فعلتُ كلّ ما بِوسعي، حتّى لو أمكنَ لبعض الذكريات أنْ تتحرّف مع الوقت. فسياقُ السّيرة الذاتية المَحض حاضرٌ في عملي منذُ البداية مع نصوصٍ، كاختراع العزلة أو الكراسة الحمراء، ولي اهتمام بالكتابة انطلاقا من حياتي الخاصة، مُبدّلاً الرُّؤى. بالمناسبة؛ أنا على وشك إتمام جزء ثان سيشكّل ثنائيا مع هذا، وإن كان هنا مخصصا للكتابة عن الجسد والأحاسيس الفيزيائية بالأساس، فالجزء الثاني سيتبنى رُؤية أكثرَ تعمّقا وسيركّز على تأريخ تجاربي الأخلاقية، والروحية والفكرية. أحب بهذا استعادةَ المَّادة ذاَتها ورُؤيتها من زاوية مُغايرة، مختلفة تماما. أن تنتقل مثلا من رواية في الشخصية الأولى لأخرى في الشخصية الثالثة، نكهة النص تختلف في كل مرة، هذا يعني أنّ حكاية الشّتاء هذه ليست سيرة ذاتية كلاسيكية بالمرّة، بل أراها كقصيدة طويلة مشكَّلة من شَذرات، التي تعادل الفوغا في الموسيقى.


• لمَ اخترت ثيمة الجسد، تحديدا، كفكرةٍ أساسية، مع أنَّه هشٌّ عادةً، بما أنّ المَتاعب الجسديّة، الحوادث والمرض حاضرة فيه بقوة؟.

الغريبُ أنّه حين أخبرتُك للتّو بأنّي استخدمتُ مرارا مادَّة السيرة الذاتية في كتاباتي، فإني لست مهتما حقّا بحياتي، بينما يجذبني التّساؤل عن معنى أن أكون حياّ، ومن جَعل منّا بشرًا، لذلك أردت أنْ أهتم بما يجمعنا كبشرٍ. أنا أصِفنِي كمَا لو كنتُ أيّ شخصٍ آخر، وأشتغل على ما نشترك فيه كلّنا. بالتّالي يمكن القول إن هذا النّص تأمل ذاتيٌّ أكثرَ منه سيرة بالمعنى الضَّيق. 


• ولمَ تركيزك على هشاشة الجسد وضعفه؟

يبدو لي أنّ المَسرّاتِ حاضرةٌ بِقدرِ الآلاَم. أستحضرُ مثلاً ممارسة الرّياضات، الأكل، التّجارب الجنسية، سواء تلك المبكرة التي تكون حتما مرتبكةً أو المتأخّرة، الأكثر اكتمالا بالتأكيد، لكن لا يوجد كائن بشري يَعبُر الحياة من دون معاناة: الأمراض، الجِراح التي تترك ندوباً، كلّ هذا جزءٌ من مواجهات قاسية أحيانا بين ذواتنا والعالم المادي.


• تقول: “جَسدك يعرف دائما ما كانت تَجهله روحك”، أترى جسدك كصديق؟

جسدي هو صديقي الحَميم وعدوّي معًا. نجدُ هنا ثنائية الجسد والرّوح التي يصعب الإفلات منها. في الحقيقة هما مرتبطان حتماً ولا يمكن معارضتهما، لكن وكما تقول زوجتي سيري، كل مريض يواجه هذه الثنائية، لأنه يرى جسده يَخذله، كما لو كان ما يحدث لنا في تلك اللحظات لا يخصُّ سوى جسدنا، لا بقية ذواتنا، وكما لو كان المرض غزوة أغراب، “فضائيين”؛ بينما حين نكون بِصحة جيّدة، فهما متكاملان تمامًا.


• أنت تؤكد أنّ الكتابة تبدأ بالجسد؛ حتى إنّك تقول إنها تكون كموسيقى الجسد، وكتاباتك أيضا تبدأ دائما، بموسيقى تحملها داخلك بطريقة تجعل التناغم يَسبق الحِسَّ.

بالفِعل، للموسيقى أهمّية بالغةً عندي، بالنسبة لسيري، التعبير الفني الآخر الذي يحتل مكانةٌ كبيرةً هو الرّسم، والفنون البَصرية بشكلٍ عام، وهي تكتب دائما عنه، حتى في نصوصها الخَيالية، أمَّا أنا فمنصتٌ جيّد، ولي أذنٌ ممتازة. صارت ابنتنا موسيقيةً وهذا لم يُفاجئني. لقد بدأتُ حياتي ككاتبٍ، بالكتابة الشِّعريةِ وترجمة الشِّعرِ الفرنسي. مسألة الإيقاع والأصوات إذن كانت دائما مَركزيّة بالنسبة لي، وأرى الكتابة كنسَقٍ أخفَضَ من الرّقصِ، حتى إنّي أمشي كثيرا حين أكتب، فذلك يساعدني على إيجاد الإيقاع المناسب لنصي. بالنسبة لي، الكتابة ليست نشاطاً ذهنيا فحسب، بَل هي تجربةٌ جسدية وفكرية معاً. أستشهد دائما بهذه الأسطر للشاعر الروسي Mandelstam:”أتساءلُ كمْ زوجَ نِعالٍ استخدمَ دانتي في اشتغاله على الكوميديا.” فلشعرهِ  إيقاع الخَطْو.


• تقول إنّك رَجلٌ ناقصٌ وجريح، كائن يَحمل داخله مِثل جرح أصيلٍ، من دونه ما كُنت لتقضيَ كلَّ هذا الوقت في الكتابة. أنت تُلمِّح إذَن إلى أنّ الكتابة مُرتبطة عندك بالمُعاناة. أهذا صحيح؟ ألا يزال كَذلك اليوم بَعدَ كَمّ الكُتب والنجاحات؟

أعتقد حقّا بأنّ كلّ الفنانين أناسٌ مَجروحون. فالمُعافونَ ليسُوا بحاجة لخَلق أعمال فنية، الحياة تكفيهم. يكفيهم أن يكونوا مُنسجمين مع رفاقهم، ومِهنهم، وعائلاتهم. الفنُّ دائما مُتجذّر في الحَاجة لدَملِ جُرحِ مُوغل في القِدم يَستحيل العُثور على مَنبعه، وتَعقب مَساره. أذكرُ دائما هذه الكلمة للكاتب الأمريكي Red Smith الذي كان يقول:” أن يكتب؟ هذا سَهلٌ جدّا، يَكفي أن يجلس قبالة آلة الكتابة خاصَّته ويفتح وَريدًا.”

مُؤلم جدّا أحيانا أن تَكتب؛ ليس مَنهجيّا، لكنهُ صعب جدّا، مَراتٍ لأنّنا نكتشف أشياءَ ليست سارّةً بالضّرورة، وهذا هو الحَال بالنسبة لي اليوم أيضا. أنا لم أتعلم شيئا، ومع كلِّ كتابٍ، كما لو كنت مبتدئا من جديد، عليّ أن أُعيد تَعلم طريقة الاشتغال، وأخافُ ألا أنجح. ما من وصفة سِحرية، ولا وُجود لمكان وَثيرٍ حيث أركنُ للكتابة، لكنّ الخوف تحديدا ما يجعل العملية مُمتعة. الشّيء الوحيد الذي تعلمتهُ، هو أنّه في كل مشروع، هناك أوقات تُحس فيها بأنك عَالق، تائه. لحظات الارتباك هذه كانت سابقاً تفزعني، بينما الآن يُمكنني البقاء هادئا. أقول لنفسي: “ حسنا, لديك مشاكل، لكن كنْ صبورا. إن كان كتابك يحتاج لشيء، فسيظهر الحلُّ”، كما لو كان الكتاب خَارجِيا. تساءلت سيري لماذا إذن نحن نظريا أحرار بكتابة أي كتاب عن أي موضوع، تحديدا هذه الكتب؟ لا توجد إجابة عن هذا بالتأكيد، لكن السّؤال لا يستحق أقل من أن يُطرح.


• تَقدمَ في كتابكَ الأخير ما يُشبه قائمةً بأماكنَ سَكنتها. هذا يتردّد، بما أنّك تَعرف الأدب الفرنسي جيّدا، في كتابات Georges Perec الذي كان يقترح إنشاء قائمة شَاملة بأماكن نام فيها، أَتحاولُ أيضاً استذكارها بدقة أكبر؟

بيريك كاتبٌ مُدهش، أعرفه وأقدّره كثيرا، لكن يبدو لي أن مُقارَبتي مُختلفة، من جهة أنا لم أَنشد الاكتمَال مطلقاً؛ ومن جهة أخرى، هو يَعتقد بأنّ الذّاكرة تَحتاج لمكان تَثبتُ فيه، وأنّ عملها جغرافي بالأَساس. أنْ أقدّم هكذا كما فَعلت، قائمةً بأماكنَ سَكنتها، يُجلي ضباب أشياءٍ منسية تمامًا. وأنْ أَجوبَ هذه الشُقق، البيوت والغُرف بالمُخيلة، عَمِل كأداةِ استذكارٍ، وذكريات مَدفونة  طفت على السطح.


• كثيرًا ما سُئلت، ماذا لو كنتَ باكستانيا، يونانيا، إيطاليا أو لبنانيا. لقد قرّرت إذَن أنْ تحضن فيك كل الأَجناس والحضارات. أَهي مُجرد بادرةٍ أخلاقية؟ لا يبدو لي أنّك سَبرتَ هذه “الهويات” الأخرَى في كتبكَ. 


هو بالفعل مَوقف أخلاقي بالدرجة الأولى، أن أقَرر هكذا، أنْ أكون الكُلّ، وأجمعَ بداخلي كلّ الحضارات لأكونَ ذاتي بحرية أكبر. أعتقد بأنّ العنصرية سمٌّ مُميت والانتماءات الدينية المُتزمتة والمنغلقة على ذاتها تُورث الكراهية، بينما لو تقبّلتَ الاختلافات كجزء من الذات، فستتراجع عنك الكراهية. بالمقابل، أنا أكتب فقط عمّا أعرفه أكثر، وما كان ولا يَزال حياتي: أمريكا، الثقافة الأمريكية، نيويورك، بروكلين...

بينما هويتي اليهودية، ليس لها وزن عندي، كالذي أمكنها أن تأخذه عند كتاب الجيل الماضي كفيليب روث أو سول بيلو اللذين سَلبتهما أصولهما اليهودية. لست مُتدينا مطلقا، وإنْ تعلّقت بهذا الجانب من تأريخِي العائليِّ، فأنا لا أملك أيّ التزام ديني ولا أيّ اهتمام بالأديان المَوضوعة مهما تَكن.


• لقد كتبتَ مقالاً عن بيكيت، هذا الكاتب المُهم بالنسبة لك. وعلَّقت فيه عن قراره بالكتابة باللغة الفرنسية، أنه كان يرغبُ في مواجهة مهاراته وقدراته. ألمْ تجرّب مطلقاً الكتابة بالفرنسية، أنت الذي تعرف جيّدا هذه اللغة؟

أعتقد بأنّه قرّر الكتابة بالفرنسية للسبب الذي ذكرته، لكن أيضا لأنّ شبح جيمس جويس كان يُثقل كاهله وكان بحاجة للتَّخففِ منه. بالنسبة لي عثرت مؤخرا على رسائل كنت قد كتبتها بالفرنسية في سنّ العشرين، وفوجئت بها مكتوبة بشكل جيد. لكنّي لا أرغب في الكتابة بها مجدّدا، فأنا أحب الإنجليزية كثيرا. 


• مع أنّك بدأت حياتك الأدبية بالترجمة، وتحديدا لكتاب فرنسيين. 

نعم، صحيح. كان يَروق لي، حين اكتشفتُ هؤلاء الكتاب، أن أسمعَ في نصوصهم صوتاً مُختلفا تماما عن ذاك الذي كنت أعرفه في الأدب الإنجليزي. بالنسبة للترجمة، هي من شيء ما، شخصي أكثر، عائلي كما نقول، لأنّ خالتي كانت مُرتبطة بمترجم كبيرٍ، رجل مدهش، ترجمَ لهوميروس، ودانتي وفيرجيل. لقد كان مُرشدي ومعلمي، شجعني، حين كنت لا أزال كاتبا يافعا، على أن أحذوَ حذوَ الكتاب الآخرين، وأتَدرّب على الكتابة بالترجمة. لقد كان هذا تَمرينًا رائعا حَمل لي الكثير من البهجة. لم أكن لأُنجزَه من دون تَشجيعه، بلا شك.


• لديك قرّاءٌ مهِمون في فرنسا وتذهب إلى هناك مِرارًا. أتَرى أنّ أعمالكَ تَلقى هُناك تَرحيبا مُميزا  أكثر مما تلقاه هنا؟

لا أعلم حقا، لكن ما أراه، هو أنّه رغم التّحولات التي طَرأت على فرنسا، الكتب تحترم أَكثر هناك. الكتَّاب مُهمشون في أمريكا والناس هنا تفتخر بمن لا يقرؤون الكتب. يبدو لي هذا عكس فرنسا، حيث يَتلقَّى الكتَّابُ الإعجابَ، والفرنسيون يُحبون الكُتب، وهم فخورون بالقول إنهم يقرؤون. في أمريكا هناك ثقافة واسعة لمعاداة الفكر.


• تقول إنّك لا تُحب إعادة قراءة كتبك، وحين تُنهي واحدًا، تُصاب بكآبة شديدة، حَدّ النُّفور. لمَ يحدث هذا؟

لقد ذَكرت بيكيت للتّو، جيّد، فهو يَكرَه رواياته، وهذا كانَ يتعبه. أنا لا أُحس به كلَّ الوقت، لكن نعم، لديّ شُعور ملازمٌ بالإحباط. أجدُ صعوبةً في تقبّل أنّ الكثير منَ الجهد أدّى لأشياء قليلة جدّا. ليس سلبيًّا تماما، لأنّ هذا ما يدفعكَ أيضا للبدءِ بكتابة كتب أخرى.

نتمنى أن نكون أفضل في المرَّة المُقبلة.


• احتلَّت ثيمةُ الصُدفة مكانةً مُهمة في رواياتك. أَيمكنك أن تَشرحَ أهمية هذه المِحورِية بالنسبة لك؟

نعم، صحيح، وهو موضوع كتبَ فيه القليلون. يبدو لي أنّي عشتُ، شخصيا، حياةً حَدثت معي فيها الكثيرُ من الأشياء الغَريبة، إذ لعبت الصُدفة دورا مُهمًّا. لدينا مَشاريع، أحلام، طُموحات، لكن هناك حَوادث، قوى خَارجية تتدخَّل، وعلينَا أنْ نَرى هذا الذي يُشكل جزءا مِن حَالتنا الإنسانية. الحادثة، بحسب فكرة الفلسفة، شيء ما طارئ، يختلط بالجَوهر من دون تغييره. في كتابي الأخير أروي هذا الحَدثَ الذي أثَّر فيّ كثيرا في سن الـ 14، حين وَجدتُني قُربَ أحد رِفاقي الذي صَعقه البرق ومات. كان يمكن لهذا أن يحدث معيِ. من حِينها، وأنا أرَى العالم كمكان طَارئ، لسنا واثقين فيه مطلقا بأنّ الأرض حيث تطأ أقدامنا لن تتهاوى. مُؤخرا، بعد أيام من مرور إعصار ساندي، خرج أصدقاء لنا يَسكنون على بعد خطوتين من هنا، لتمشية كلبهم فوقعت عليهما شجرة أنهكتها العاصفة. إذن نعم، يجب تذكر الحادثة، الحظ والصدفة.


• تختم كتابك بكتابة: “باب يُغلق، آخر يُفتح. لقد دَخلت شتاء حياتكَ.”

لا أعرفُ من أين تأتيني كتبي، فهي تولد في لاَ وعيِي، والكتابة كما لو أنّها تَجد طَريقها في العَتمة. فكرة المَوسم الذي مَنح تَسميته لكتابي، والذي أستعيده في هذه العبارة، يشرح الكثير: من جهة كتبت هذا الكتاب في الشتاء، لكن من جهة أخرى، لا بدَّ من أن تلمح صدى لشوبرت في رحلة الشتاء، هي بالتأكيد مرحلته الأجمل للمقطوعة، المؤلفة قبل سنة من وفاته. يمكننا التفكير بأنه من الصفر إلى عشرين سنة، نحن نَعبرُ ربيع حياتنا؛ ومن العشرين إلى الأربعين، الصيف، وبين الأربعين والستِّين سنة، نحن في الخريف. وبداية من الستِّين سنة، ندخل الشّتاء، ولا نعلم شيئا عن مدته.


حوار أجرته وترجمته عن الإنجليزية جورجيا مخلوف.

المصدر : Huffpost