ميادة سفر
النسويات ينعتن بكثير من الأوصاف التي دفعت الكثيرات إلى الابتعاد عن تسمية أنفسهن بأنّهن نسويات أو مناصرات للمرأة، وفضلن العمل من خلف حجاب درءًا للكثير من المخاطر التي يمكن أن يتعرّضن لها في مجتمعاتهن، وبقيت أعداد قليلة من النساء على استعداد للإعلان عن انتمائهن للنسويَّة.
مرت النسويَّة بمراحل عدة عبر التاريخ منذ ظهور المصطلح لأول مرة عام 1860 وحتى يومنا هذا، والنسوية كما عرفتها سارة غامبل في كتابها "النسويَّة وما بعد النسويَّة" هي حركة سعت إلى تغيير المواقف من المرأة كامرأة قبل تغيير الظروف القائمة وما تتعرّض له النساء من اجحاف كمواطنات على المستويات القانونيّة والحقوقيّة في العمل والعلم والتشارك في السلطة السياسية والمدنية". وانطلاقًا من هذا التعريف يمكن أن نعاين الأوضاع التي تعيشها المرأة في عالمنا المعاصر اليوم بعد كل تلك النضالات التي قامت بها أوائل النسويات، وهي بلا شك أوضاع أشد إجحافاً وظلماً مما كان عليه حال المرأة منذ قرون على الرغم من تمكن النساء من التعليم والعمل ونيل بعض الحقوق القانونيَّة، إلا أنّ الواقع يشي بخفايا كثيرة ما زالت تنتقص منهن وتعتبرهن مواطنات من درجة دنيا، فكم أعداد النساء اللواتي يتبوّأن المناصب القياديّة في بلادنا مقارنة بأعداد الذكور؟ وكم نسبة تمثيلهن في المجالس البرلمانية والمحلية؟ فضلًا عن طرق التعامل معهن في بعض المجتمعات حين يقتلن على مقاصل الشرف الذكوري، ويحرمن من حضانة أطفالهن ويجبرن على الزواج، ويستخدمن أوراق ضغط وتشهير في الحروب والنزاعات، إلى غيرها من أحوال لا تدع مجالاً للشك أننا ما زلنا بحاجة ودائمًا للتذكير بما يتعرضن له وما يعانينه من مآسٍ، وما زال الحديث عن النسويَّة مطلبًا وضرورة.
بدأت الموجة النسويَّة الأولى بمطالبة النساء بحقوق كثيرة كانت ممنوعة عنهن من التعليم والعمل والملكيَّة وحق الاقتراع، فتصدت مفكرات تلك الموجة التي ترافقت مع ظهور كتاب "دفاعاً عن حقوق المرأة" عام 1792 للكاتبة ماري ولستون كروفت الذي اعتبر أحد الكتب التي غيرت التاريخ في العالم، في تلك المرحلة سيتم التطرق إلى تلك الأفكار المتوارثة اجتماعيًا وسياسيًا حول المرأة واعتبارها رمز الخطيئة الأولى، فضلًا عن آراء بعض المفكرين الذين سنفاجأ بمواقفهم من المرأة وهم الذين نظروا للفكر والتحرّر والتنوير، من أفلاطون الذي كان يصنف النساء بمرتبة العبيد، إلى إيمانويل كانط الذي اعتبر المرأة ذات قدرات عقلية ضعيفة، وصولًا إلى جان جاك روسو فيلسوف الثورة الفرنسية الذي لم يكن يرى المرأة إلا أداة للجنس والإنجاب، ولا يمكن تجاوز عالم النفس الشهير ورائد مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد الذي أرجع كل مشكلات المرأة إلى عقدة النقص بما أسماه "عقدة القضيب".
بينما برزت في الموجة النسوية الثانية الكثير من الأسماء من كاتبات وكتاب نظرن للحركة النسوية ونوقشت القضايا المتعلقة بالمرأة وأسباب الاضطهاد الذي مورس ضدها، في تلك الفترة سيظهر كتاب "الجنس الآخر" للمفكرة والفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار، الذي اعتبر دستور الحركة النسوية الجديدة، وما زالت مقولتها التي تلخص فيها أحوال النساء حاضرة حتى اليوم في كل الأدبيات التي تتحدث عن النساء وانعكاس الثقافات السائدة وتأثيرها على النظرة للمرأة "لا تولد المرأة امرأة، لكنها تصبح كذلك" بمعنى أنّ المجتمع هو الذي يشكل المرأة ويقولبها بالشكل الذي يتوافق مع أفكاره وهواجسه ورغباته.
في ثمانينات القرن الماضي ظهرت الموجة النسوية الثالثة أو ما بات يعرف "ما بعد النسوية" متأثرة بفلاسفة ما بعد الحداثة مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا التي تقوم على التفكيك والاختلاف، تم التركيز على قضايا الجندر والنوع الاجتماعي والعرق واعتبرن أن التعاون مع الرجال في النضال من شأنه أن يحقق التغيير لعالم أكثر عدلًا وسلامًا، ولم تخلو تلك المرحلة من الانتقادات حيث رأت بعض النسويات أنّ موجة ما بعد النسوية دمرت مكاسب الموجة الثانية، ومن أبرز المنظرات لهذه الموجة النسوية الجديدة: جوديث باتلر حيث تطرقت في كتابها "قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية" إلى النظريات التي تقول بوجود هوية نسوية، وناعومي وولف صاحبة كتاب "أسطورة الجمال" الذي طرحت فيه معايير الجمال التي يطرحها المجتمع على النساء، والضغوط التي يتعرضن لها للوصول إلى تلك المعايير، بما يشكل اضطهادًا بشكل جديد وعنفًا مقنعًا ضد المرأة.
مضت الكثير من السنوات وما زال لدينا الكثير مما نستحقه وهو حق لنا نحن نساء هذه الأرض، وما زال العنف ضد المرأة متواصلًا، وما زالت حقوقها مستلبة في كثيرٍ من المجتمعات، وما زلنا نتوقع ونحن نتحدث عن النسوية الكثير من الهجوم والاستهجان والرفض من قبل الكثيرين حتى من بعض النساء اللواتي ارتضين التبعيَّة ودافعن عنها، ونتوقع ردود فعل من مثل "ماذا ينقصها اليوم"، من دون أن يدرك هذا البعض أن الكثير الكثير ينقص النساء في مجتمعاتنا، طالما بقيت قوانيننا تنتقص منهن في الميراث والحضانة والعمل، وطالما بقيت القوانين المجتمعيَّة والأعراف والتقاليد تجبر المرأة أن تتماشى مع "ما يطلبه الجمهور" في الشكل والمظهر.