علي رياح
لقد ذهب ذلك البريق من عينيه، وجفّت ينابيع العطاء في بدنه، وصار الهزال رديفاً له، يقضّ مضجعه ويذهب به إلى المتبقي من خزين الذكريات.
كنت، في تموز 2005، أقف مشدوهاً متسمّراً أمام من يُفترض أنه السد العالي أو صياد الهدافين، لكنني لم أجد سوى شبح لذلك العملاق الذي أسماه العراقيون جمولي.. وهو في الواقع عباس جميل، صاحب التأريخ الكروي الذي يَقلّ نظيره، وصاحب اللمسة الأخلاقية الكروية التي لا تُبارى والتي يعجز عن تدبّرها أبناء يومنا هذا..
لم يذهب البريق والعطاء ومعهما العافية فحسب، إنما ذهب أيضاً من كان يتصورهم زملاء وإخواناً يدّخرهم لساعة الشدة.
كانت تلك صورة جمولي قبل رحيله بأيام قلائل.. كان يرقد في مستشفى النعمان في الأعظمية، وقد وضع نصب اعتباره أنه مُفارق هذه الدنيا الفانية، بَيد أن ذويه والقليلين من مُحبيه كانوا يتمسّكون بالأمل أو حتى بأهداب الأمل الواهية.. كان يُقلـّب ناظريه بعجز تام بين الوجوه.. أين انفضّ عنه أهل الكرة ورفاق الأمس؟ وكنا معه نشدّ من عزمه، فرحمة الله أوسع من طِباع بني البشر.
في ركن هادئ بعيداً عن صخب الزائرين لنجم العراق الكبير، جَلستُ إلى أخيه طبيب الأسنان إبراهيم ورحت أتساءل: ما الذي يتبقّى في عقل جمولي من ذكريات وانطباعات ومواقف وهو في الثامنة والسبعين من عمره؟.
قال: إنه لا يستحضر إلا القليل من هذه الخلاصة الكروية لمسيرته.. إذا أردنا أن نحرّك ذاكرته أو نداعبها، جئنا بالصور التي توثق الحدث مهما ابتعد.. عندها يجيل النظر في الصور ويطيل التأمل فيها.. هنا فاز العراق في بطولة كأس العرب الثالثة في بغداد عام 1966 وقد ترك جمولي المنتخب، فلقد أعلن اعتزاله وسط جمع من محبيه نجوم الكرتين العراقية والعربية في مباراة تكريمية تأريخية بعد البطولة.. هنا كانت مباراتنا العصيبة أمام المنتخب التركي على أرضه، لقد كان المنتخب العراقي طري العود ولا قدرة له على خوض المباريات الكبرى.. وهنا لعبنا، وهنا خسرنا، أو فزنا.
عصام ابنه البكر لم يكن يتحدث عن الأب النجم، بل كان يستعيد خصاله وإنسانيته، خذوا هذا الموقف: في إحدى المباريات – يقول عصام - كنت جالساً على المدرجات أتابع فصولها مع الآلاف من العراقيين.. وخلال المباراة سدّدَ والدي كرة قوية اجتازت خط المرمى نحو المدرجات لتطيح بوعاء أو (صينية) كان يحملها بائع السميط في الملاعب، وتسبب ارتطام الكرة القوية بالصينية في انهيار أعمدة السميط التي كان يحملها الرجل.
ويبدو أن أبي انتبه جيداً إلى ما فعله من دون عمد طبعاً، وقد أمضى الوقت المتبقي من المباراة وقد تعلق ناظراه بالمدرجات حيث كان بائع السميط يجلس نادباً حظه العاثر، إذ من أين جاءته هذه الكرة لتبعثر مصدر رزقه المعتاد وقوت عياله الوحيد..
ما حدث بعد ذلك أن جمولي ومع إطلاق الحكم صفارة النهاية، جرى سريعاً نحو بائع السميط كي يدفع له التعويض المناسب، والتعويض هنا أنه افترض أنه اشترى كل ما كان يحمل من بضاعة.
في تلك الظهيرة من تموز، أمضيتُ ساعتين مع (تأريخ) العراق الكروي الراحل.. مرّت الساعتان وكأنني في حلم لا أعرف كنهه.. هل هو حلم سعيد، أم هو كابوس مرعب؟.