76 سـنة أخـرى

الرياضة 2024/06/10
...

علي رياح

في لندن عام 1948 كتب العراق السطر الأول في رحلته الطويلة المتعثّرة لاحقاً في رحاب الدورات الأولمبية.. أقول طويلة لأن عمرها يبلغ الآن 76 سنة.. ومتعثّرة، لأن مشاركاتنا كانت نهباً للاجتهادات الشخصية أو العواصف السياسية التي مرّ بها العراق كل هذا الزمن، لكن ما يُلفت حقاً أن مشاركاتنا كانت دليلاً على تفاوت العقلية التي تسيّر الرياضة العراقية تخطيطاً وتنفيذاً.. ففي زمن اللجنة الأولمبية العراقية الأولى التي كانت تضم أشخاصاً محدودين يتصدرهم عبيد عبد المضايفي وقدري الأرضروملي وأكرم فهمي ومجيد السامرائي.. في ذلك الزمن كانت مشاركتنا في لندن مقتصرة على كرة السلة وألعاب القوى، وقد مثلنا فيها اثنا عشر رياضياً وأربعة إداريين لا غير بمن فيهم رئيس الوفد.
أما في يومنا هذا وبعد مرور 76 سنة، فنجد أننا لم نخطُ إلا نحو الأسوأ بمسافات بعيدة.. مشاركة محدودة للغاية في باريس، إذا استثنينا وفد كرة القدم الكبير عدداً كالعادة، وليست هنالك نسبة وتناسب بين حجم مشاركتنا الرياضية الحقيقية وبين الذين سيصرّون على الذهاب لمدينة النور، فقط لكي يتّخذوا مقاعدهم على المدرجات.
في عام 1948 كانت صفة الهواية ترفرف فوق الجميع، ولم يكن السفر غنيمة، فالوفد الذي سجّل لنا مشاركتنا الأولى لم يضم سوى مدرب واحد هو مجيد السامرائي، وقد اتخذ كذلك صفة الإداري في الوقت نفسه من منطلق (تقنين) شكل الوفد، وعدم فتحه أمام الراغبين في الذهاب إلى الألعاب الأولمبية لا للمشاركة الفعلية ولا لإثراء سجل العراق، ولا لأداء دور مفصلي في المهمة (الوطنية)، وإنما للسير في طابور الاستعراض خلال اليوم الافتتاحي.
مع توالي المشاركة في الدورات الكبرى ومنها الأولمبية، كانت الصفة العراقية المُميَّزة هي الحضور المترهل للإداريين.. وهذا وصف يلقي الضوء على التراجع الذي أحاط بالرياضة خلال سنوات عديدة من الزمن، نتيجة لتردّي قواعد الرياضة في المدارس والساحات الشعبية وفي الأندية، وافتقار الكثير من الألعاب الفردية إلى الدعم الحقيقي، فضلاً عن افتقارها أصلاً للملاعب المناسبة أو المراكز التدريبية الصالحة للإعداد وتطوير المستوى، بجانب الإهمال الإعلامي طبعاً.
قبل ست وسبعين سنة، كان العراق يبدأ عهده الأولمبي بأمل أن تتطور المشاركة بعد ذلك، لتكون أوسع حجماً بأفضل نوعية، لكن الأمور عندنا اعتادت أن تأخذ مسار التراجع مع مرور الزمن.. ففي كل فصل من السنة تظهر رياضة جديدة ويتمّ اعتمادها، وفي كل نصف سنة يتأسس اتحاد جديد لرياضة لا شأن لها، يستولي على نصيب من التخطيط والدعم والمال، فأهدرنا البوصلة.. وبدلاً من أن تكون ألعاب القوى والسباحة والرياضات المائية والمصارعة ورفع الأثقال والملاكمة والفنون القتالية المعتمدة أولمبياً وغيرها، فضلاً عن بعض الألعاب الفرقية، موضع تركيز الرعاية والتبنّي، صار البناء أفقياً مُفرطاً، مع ضياع أكيد لملامح الجودة، بينما كان الأجدر والأجدى بنا أن نتبنى ترصين البناء العمودي الذي يبحث عن النوعية ويختزل طريق الإنجاز.
مُجدداً وبالفم المليان: لن تنهض الرياضة، ولن تقوم لمشاركاتنا الكبرى قائمة، ما لم يتغيّر الفكر، وما لم يذهب الدعم إلى مستحقيه، ومن دون ذلك ربما سترثُ أجيال لاحقة ستاً وسبعين سنة أخرى من التراجع والمشاركات العجفاء.