البنية {اللوجستيَّة} في الهويَّة الوطنيَّة

آراء 2024/07/25
...

  ثامر عباس


لقد اجتهد الكثير من علماء النفس والاجتماع والانثروبولوجيا بخصوص طبيعة المصادر المادية والمعنوية التي تسهم في صيرورة (الهوية الوطنية) من جهة، والدفع باتجاه تطورها أو تدهورها من جهة أخرى؛ فمنهم من رشح (الدين) كأساس، ومنهم من آثر (اللغة) كمصدر، ومنهم ارتأى (الثقافة) كمنطلق. هذا في حين وجد آخرين في عناصر الجغرافيا وعوامل التاريخ ضالتهم المنشودة في تكوين تلك الهوية، معتبرين إنها تشكّل الأساسات المحورية التي يشاد فوقها ذلك الصرح الحضاري والمعمار الرمزي الذي لا مجال للزهد فيه أو الاستغناء عنه. 

والحقيقة ان كل ما ذكر عن تلك المصادر والمراجع له دور – لا يمكن نكرانه - يلعبه في تلك الصيرورة وذلك التكوين، إنما العبرة في تناسب أهميتها وتتعاظم شأنها وفقا لطبيعة الظروف الاجتماعية السائدة، الأوضاع الاقتصادية القائمة، والسياقات التاريخية المهيمنة، التي يجد المجتمع المعني نفسه منخرطا في أتونها وملتحما في علاقاتها. ولهذا كم تبدو محاولات البعض ساذجة وعقيمة حين يغمرون بالاستغناء عن كل تلك الشبكة المعقدة من التفاعلات والصراعات والانثيالات ما بين عناصر تلك المصادر والمراجع المشار إليها، والاكتفاء بالتعويل على مصدر/ مرجع واحد (أساسي) يقرر النتيجة النهائية لمآلات تلك الجدلية التفاعلية. 

ولعل من الغريب حقا ان مفكرا ومؤرخا اقتصاديا رصينا مثل (عصام الخفاجي) يتبنى وجهة نظر تقوم على أساس (أن مستوى التطور التكنولوجي، وبخاصة تكنولوجيا التواصل والنقل، تعيّن حدود التفاعل الجغرافي وبالتالي فإنها تعيّن عدد الأفراد الذين بوسعهم الانخراط في كل من النشاطات المادية وفي المادية المعروفة والمطلوبة)، مسندا إلى هذه البنية اختصاصات وقدرات هي بالأصل ليست من ضمن مكوناتها ولا من طبيعة عناصرها، ضاربا عرض الحائط بكل تلك الشبكة المعقدة من الترابطات البنيوية والتفاعلات الوظيفية والانثيالات القيمية التي لا مفر من أخذها في الحسبان إذا ما أريد للتحليل السوسيولوجي أن يكون علميا وموضوعيا.  وإذا ما حاججنا بعدم كفاية الاعتماد على البنية (اللوجستية) في تفسير السيرورات الاجتماعية، فضلا عن عدم تمكينها الباحث من تشخيص طبيعة الظواهر التي تنطوي عليها، والتي يمكن أن تتبلور لاحقا في سياق عمليات التراكم الاجتماعي والتقادم التاريخي والتخادم 

البنيوي. 

فذلك لا يعني التقليل من شأن تلك البنية أو تجاهل أهمية دورها في أنماط التكوين ومسارات التطور، بقدر ما نتوخى إظهار ان جدليات الواقع الاجتماعي والتاريخي أغنى واعقد مما يمكن لعامل واحد أو اثنين من عوامل الصيرورات الحضارية، تفسير ظاهرة اجتماعية تقاطعت عندها وتداخلت فيها مجموعة من البنى السوسيولوجية والانثروبولوجية والسيكولوجية والمخيالية، وكذلك اللوجستية. مثلما هي صيرورة (الهوية الوطنية) خصوصا في المجتمعات التي لا تزال تعاني تبعات التصدع والتصارع. لا سيما ان (الايديولوجيا – كما يؤكد (الخفاجي) ذاته - (وأنماط الوعي غير قابلين للاشتقاق آليا من القوى المصلحية والتقنية، ولا يمكن اختزالهما إلى تلك القوى).  والحقيقة ان معطيات البنية (اللوجستية) المحددة بعوامل (التواصل) و(النقل) كما يراها المفكر والمؤرخ (الخفاجي) في كتابه القيم (ولادات متعسرة: العبور إلى الحداثة في أوروبا والشرق)، لم تكن دائما صالحة أو نافعة في بلورة (الهويات الوطنية) للمجتمعات المفتتة اجتماعيا والهشة حضاريا حين تعرضت - مضطرة لا مختارة - لأوليات لتلك العوامل. بل عملت على العكس من ذلك تماما ، حيث أفضت إلى إحياء الهويات (التحتية) و(الفرعية) للجماعات الأصولية التي طالما قاومت عوامل (الاندماج) ضمن المجتمعات الوطنية من جهة، وساهمت - عبر كل السبل - في تفكيك ومسخ الشخصيات (الاجتماعية) و(المعيارية)، واختراق وإضعاف الهويات (الوطنية) و(القومية)، التي حققت تلك المجتمعات صيرورتها عبر عقود من الكفاح المضني - والدامي في بعض الأحيان - لأجل بلوغ تحررها ونيل استقلالها. والدليل على ذلك انه على الرغم من شيوع تبني ظاهرة (العولمة) لخطابات التواصل الحضاري، والتفاعل الثقافي والتداخل الإنساني، بين الشعوب والأمم المختلفة. إلاّ أن تبعاتها وتداعياتها على صعيد الاهتمام برمزية (الهويات) الوطنية والقومية واحترام (الثقافات) المحلية والشعبية، كانت ولا تزال من الأشد وقعا عليها والأمضى فتكا بها، لا سيما ما يتعلق بتفكيك بنيتها المتقادمة وتحطيم قيمها المتوارثة.