التصارعيَّة والشعبويَّة ارتدادان للفوضى

آراء 2024/07/28
...

مرتضى النداوي

بعد الإطاحة برأس النظام السابق في التاسع عشر من آذار/ مارس عام 2003، دخل العراق في تجربة جديدة مع الديمقراطية، كانت أشبه بالدوامة، التي تحمل في طياتها العديد من التحديات والصعوبات دونما فرص حقيقية تذكر، بعد عقود من الحكم الاستبدادي، تطورت الديمقراطية في العراق رأسًا على عقب، في مسافة زمنية تقارب العقدين، تطورا هو الأقرب إلى التشوه متأثرة بالتحديات الكبيرة المرتبطة بالتصارع السياسي والطائفي والعرقي والثقافي، وفي هذا السياق، انبجس عن هذه الديناميات المشوهة للديمقراطية في العراق ممارسات تشير إلى مفاهيم لم تتأسس نظريًا، بل أوجدت سُبلها إلى الواقع بطريقة معكوسة – أي أن تلك الممارسات لم يتم التأسيس لها بطريقة قائمة على التفكير المنهجي، ثم الانطلاق نحو التطبيق في فضاء الواقع -، منطلقة من وإلى الممارسات
الإجرائية.
ومن أهم تلك المنتجات مفهومان متقاربان على الأقل في تفكير (شانتال موف)، هما الديمقراطية التصارعية والشعبوية، وصحيح أن (موف) تعد من مفكري الاتجاه الماركسي المعاصرين، إلا أن التعبير الدقيق عن أفكارها يطلق عليه في الأوساط الأكاديمية بطروحات ما بعد الماركسية، وفي الوقت ذاته هذه المفكرة قد تنبأت بصعود التيارات الشعبوية، وهي مؤمنة بالجوانب الإيجابية للشعبوية وخاصة اليسارية
منها.
إذ تتميز الديمقراطية التصارعية بالصراع المستمر بين الأحزاب والتيارات السياسية، لخلق «هيمنة ثقافية» عن طريق التفاعل والتفاوض الصرعيين بالمعنى «الرياضي للعملية» أي أن التفاعل يكون من أجل بسط الهيمنة الثقافية وما يتصل بها من مفاهيم مشابهة، من خلال التصارع غير المفضي إلى الصدام المادي وفرض الإرادات بالتعسف، إلا أن الحال في العراق مختلف تمامًا، بفعل مخرجات «الفوضى الخلاقة»، التي فتحت الباب أمام المتعاطين بالسياسة لاقتناء مكتسبات القوة (الصلبة)، والتي بدورها أفضت إلى تمكنهم من إنتاج القوة (الناعمة) وتخليقها، وهو ما شهده العراق بوضوح بعد الاحتلال الأمريكي.
دون تحقيق إي استقرار سياسي، إلا سيطرة الجهات الحزبية على مؤسسات الدولة للدرجة التي دفعت الأفراد لتسمية تلك المؤسسات بالاسم الجهوية بدلا من الاسم الوظيفي، وفي هذا الجو الأناركي تشكلت حكومات انتقالية وتعاقبت الأحزاب على السلطة، وتبعًا للتأرجح بين الصراع والتفاوض والتصادم بين الاتجاهات الحزبية تشكلت قواعد ومسارات عرفية للاشتباك، إلى الحد الذي أصبحنا فيه نتكلم عن هيمنة مجزأة داخل المؤسسات، ما خلا النزر القليل منها، مما أثر سلبًا في عملية بناء دولة المؤسسات، أو ما يطلق عليه (فرانسيس فوكوياما) «بناء الدولة الأمة» في كتابه الذي يحمل ذات العنوان.
وبالعودة إلى الشعبوية باعتبارها من التطبيقات، التي تضافرت عدة من المتغيرات على صياغتها والعمل بموجبها، وفي مقدمتها الفوضى ثم التصارع، لكن الشعبوية العراقية مختلفة كما هو الحال مع التجربة العراقية في إطار الديمقراطية التصارعية، إذ إن الشعبوية في العموم مبنية على تأليب مشاعر الشعوب تجاه قضايا معينة وخاصة تلك التي ترتبط بمدركات واعتبارات لدى فئة واسعة من الشعب، لذا يستعمل الشعبويون تلك المشاعر التي قد تكون مدفوعة بالعرق أو الفئة أو حتى ضيق العيش لشيطنة الآخر، وغالبًا يوجه الشعبويون العامة ضد النخب السياسية، والأخيرون يتهمون من يوجه الدهماء بمحاولات تقويض المؤسسات التي تبتنى عليها
الدولة.
والمختلف في الشعبوية العراقية عن غيرها في أنها تخضع لمؤثرات أخرى وليست ثابتة كما هو الحال على سبيل المثال في حالة استغلال (دونالد ترامب) لمشاعر سكان الولايات الغربية في جعل الولايات المتحدة امبراطورية خالية من الأعراق الأخرى غير البيضاء. ففي هذه الحالة هنالك نوع من الثبات الذي يمثل رصيدا يمكن الاتكاء عليه من قبل أمثال (ترامب)، أما في العراق فحتى الشعبوية التي تعد قريبة من الطروحات الميكافيلية، قد انسلخت من ذلك لتكون أداة بيد من يملك قوة التأثير ليغير المتبنيات كيفما شاء عن طريق مسلكي الترغيب والترهيب إضافة إلى الكثير من
 الخداع.
وأخيرًا إن الفوضى الخلاقة هي المدخل الرئيس لتفعيل العملية الصراعية في العراق، وبفعل رؤية الإدارة الأمريكية التي عدتها الأداة المثلى لتغيير الواقع العراقي من نظام استبدادي إلى ديموقراطي، بحسب ادعاء (كونداليزا رايس)، إلا أن بعد ما يزهو على عقدين من الزمن يمكن القول، أن ((الفوضى الخلاقة)) كانت وستبقى آلة تنهي أي فكرة أو محاولة لتغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في العراق نحو الأفضل.