زهير الجبوري
إنَّ أهم ما يمكن الحديث عن تجربة زياد جسام هو أنه فنان يبحث عن كسر إيقاع التلقي في المنظور التشكيليّ، ربما يعود ذلك لغوره المستمر في تقديم تجربة فنية فيها اختلاف في التكوين والمضمون، ولا ضير في ذلك إذا كانت هذه التجربة أعطت ثمارها ووصلت إلى الآخر عبر جمالية خاصة، ولأنه قدم تجارب شخصية وأخرى مشتركة مع بعض الفنانين العراقيين، وبأساليب معهودة والمتداولة، هو الآن يقدم أشياءً تثير الدهشة، وتثير الأسئلة، وتثير العلامة التركيبية ذاتها، بمعنى أن اشتغالاته الأخيرة التي أُحبُ تسميتها بـ (إيقونات الأثر) كانت ذات طابع جمالي خاص، بل ذات بناء تركيبي انطوى على مفهوم (الكتلة المجسدة)، وهي التفاتة حساسة ومثيرة.
صحيح أنه لم يكن الفنان المتفرد بهذا الأسلوب، إلاّ أنه المتفرد في اختيار جعل من وحدة الموضوع الذي اشتغل عليه يصبح الجزء المؤثر في الحدث الآني، بمعنى إننا لو أخذنا بعض اشتغالآته التي تطرق لها في هذا الجانب، سنشير إلى ما قدمه في معرض الكتاب الدولي قبل مدّة معينة، حين أخذ على عاتقه تقديم النموذج التشكيلي لثيمة الكتاب وتقديمه بتقنية أدائية عالية المستوى في ركن من أركان المعرض، بل أصبح حضور الكتاب بدلالاته الرمزية والجمالية/ التشكيلية ذات منظور يتماهى وجمالية المكان، كان ذلك في العام 2021، حيث كانت إلتفاتة الجمهور للأعمال التي قدمها تمثل والنماذج المتداخلة مع الموضوع ذاته فيها متعة جمالية كبيرة، حينها تحدثنا عن هذه التجربة في المكان ذاته، ولخص جسام قوله بأنَّ مشروعه مستمر في هذه التجربة التي سبقتها تجربة في العام 2016 بمعرض عنوانه (إعادة تدوير) في برج بابل على وجه التحديد.
قد يكون أسلوب التجريب الذي اشتغل عليه جسام عبر الإصرار على العمل الفني التجسيدي الذي يعطي رؤية لها منظورها الشكلي المختلف، هو الأسلوب المعاصر في طرح الأفكار عبر آلية ادائية يمكن تصنيفها بفنون "ما بعد الحداثة" وهي ذات الإشارة التي ذكرها الراحل عاصم فرمان، حين قال عن أعماله "إنه حاول تكريس نفسه في تقديم رؤية جديدة للواقع، وقد اخضع الواقع التفسير والتأويل وإعادة البناء".
الرؤية الجديدة وإعادة البناء هي الامساك بالمعاصرة، وتقتضي المعاصرة كسر الثابت في اطار اللوحة والصياغة الفنية/ التشكيلية، وهنا تبدأ مرحلة جديدة في التفكير وطرح العمل الفني بشكل فيه صدمة وإثارة، ولعل الدافع الذي جعل الفنان يغور في هكذا تفاصيل جمالية، متابعته الدقيقة للتحولات التي يشهدها العالم من كسر الثوابت والغور في عوالم "الميديا"، وسفره لمدن فيها الفن التشكيلي على مستوى كبير، ما جعل منه فنانا يعيد الثيمات المتداولة "كتاب../ دراجة../ آلة موسيقية../ زورق../ كرسي.. وغير ذلك"، إلى ايقونات رمزية تستدعي الأثر بوصفه استعارة لفترة معينة، ناهيك عن قدرته في تكوين العجائن وأسرارها التركيبية واستخدام الألوان وطريقة اشتغالها، وما إلى ذلك.
إنَّ الّلعب على الثيمة المفاهيمية أعطت دلالاتها وثمارها في تجسيدات جسام لأعماله، وهي تضاف إلى مهارته في الأداء، بمعنى إنّك حين تشتغل في منطقة تشكيلية معينة ولك فيها ثقافة ووعي، فهذا يحسب للعمل ذاته. وأرى على مستوى متابعتي للفنان أنه جريء ويغامر ويمتلك من الجانب التجريبي ما يجعله اكثر رصانة وأكثر تواصلاً، وقد قدم العديد من النماذج المجسدة على مستوى عال من الدّقة، لذا فهو يطرح مشروعه "الثقافي/ التشكيلي / التجسيدي" ويعطي مدلولات عميقة وراكزة فيه. فحين نشاهد اللوحة التي يظهر فيها الشكل التجسيدي للدراجة الهوائية وهي داخلة في مشروع تشكيلي "لوحة"، ندرك مدى أهمية استعادة الأشياء المألوفة في حياتنا لتصبح في كينونتها بؤرة فنية ذات تفاصيل جمالية خاصة، وقد أعطت هذه العملية انتباهة كبيرة من أصحاب الشأن في الوسط الفني، حيث يمسك كل من يتابع هذه الأعمال مدى قدرة التوظيف عبر ادائية لها منظور مختلف.
لعل الخوض في تجربة تشكيلية مثل التي قدمها زياد جسام في الفترة الأخيرة، والتي أخذت على عاتقها إبراز هويته الخاصة في الأسلوب التركيبي "الأنستليشن"، يعكس مدى التفكير في الخروج من دوامة الأشكال التي ألفناها سابقا، وكيف تكون الألوان والموضوعة والأسلوب بشكلها المعهود. الآن ومن خلال تركيبة الفنان وذهنيته المنفتحة على مساحات واسعة في التأمل، وكيفية استخلاص الأشياء وتطبيقها وجعل عملية التلقي تتجدد، إنما يُعدُ مشروعا تشكيليا لا بد التركيز عليه.
إن مثل هكذا مشاريع تكون له أدواته الخاصة في العجائن والكولاجات والتركيبات التي يعرف أسرارها الفنان ذاته، لذا، انطوت المجسمات الفنية عند جسام على تركيز عال في المنظور والرؤية المعاكسة المعتادة. ولو ركزنا على كتلة "المشحوف" في إحدى معارضه وكيفية تنصيبه في قاعة العرض، سنجد كيف أنه خلق جمالية خاصة للشكل ولطريقة التلقي، وكذلك عمله المعنون بـ "القربة في قاع النهر"، هي عملية استنهاض الأشكال وسحبها من قاعها وإظهارها إلى الواقع العياني، يعطي علامات غاية الدقة في القاع ذاته، وكأنه شكل تصويري أخذ عبر آلة
الكاميرا.