ا. د باسم الاعسم
الفن بأشكاله كافة، عبارة عن خطاب ثقافي، ومعرفي، وإنساني، يقترن بالمفاهيم الجليلة، كالحق، والجمال، والحرية، والتسامح، وأما الفنان، فمن أبرز رسل الإنسانية، والسلام، منتج الفن، وصانع الجمال عبره، وتلكم هي عظمة الفن والفنان، لاقترانهما بالخلق والإنسان، لكنهما لم يسلما من الكفر بقداستهما في مواضع شتى، من قبل أنظمة أو أناس لا يدركون قطعاً قيمتهما في الحياة والمجتمع، وأثرهما في الواقع والإنسان.
ولفرط ما يعانيه الفنان من إشكاليات عدة، ومثبطات جمة، إذ بدلاً من أن نتحدث عن جماليات الفن وأهدافه، ومخرجات الفنان ورسالته، صرنا نتحدث بحرقة عن أمم سبقناها في إرثنا الفني والثقافي، لكنها تخطتنا في مضمار تقدير الفن، وتعظيم الفنان، لأنها أدركت، بوعي تام، خطورتهما، ودورهما الطليعي في إذكاء روح الإبداع والوطنية والانتماء، بل وترسيخ هوية المجتمع الحضارية، إلى جانب دورهما في التنمية الفكرية والثقافية على حد سواء، فأقرت الجوائز الثمينة، وبنيت المؤسسات الحاضنة.
لذلك، ليس من قبيل البطر أن تعنى الأمم المتحضرة بالفن والفنانين، فهوليوود السينمائية، لا تختلف عن أية مؤسسة اجتماعية أو انتاجية أو سياسية في أميركا التي طالما تترجم فلسفتها وطروحاتها الفكرية والفلسفية عبر مسرحيات وأفلام ومسلسلات، وفي الامارات تبذر المليارات لإعلاء شأن الفن، وتشييد البنى التحتية المتعلقة بالشأن الفني والثقافي، بحيث لا يمر أسبوع من دون فعالية فنية، أو نشاط ثقافي، فقد وظفوا الفن لإسباغ سمات التمدن والتحضر، على - توجهاتهم وأفعالهم، وتجميل صورة بلدانهم أمام العالم عبر الفن، ومن زار الإمارات قد انبهر بما رأى من مساحات الجمال وفضاءات الفن في كل مناحي الحياة، وهكذا العالم كله. ولثقافة رجالات الدول، أثر كبير في سيادة الفن ودعمه وإمحاء كوابحه، في منأى عن الادعاء، أو الاستعلاء أو التطرف، والطائفية.
الغريب في الأمر، أن العراق موئل الفن، وموطن المبدعين، وأرض الحضارة، لكن لم يأخذ الفن فيه مساحته الكافية، ضمن دائرة الاهتمام التي يستحقها، بوصفه من أرقى ثمار الحضارة الإنسانية، فثمة كوابح تحول دون ارتقاء الفن ودعم الفنان مع يقيننا أن الفن العراقي ملتزم، والفنان إنساني النزعة، وطني الانتماء، ويحب الناس، ويقدس الوطن، ثم يؤرقه الظلم والفساد والإرهاب ويسعده السلام والتسامح، فعلامته الفارقة حب الناس والوطن، لكنه لم يكرم بما يليق به وبمنجزاته، مثلما صرح المخرج والممثل حسن حسني قبل أيام إذ قال: "خمسون عاماً من العطاء ولم أكرّم في بلدي" فهاجر، وكثر سواه، بحثاً عن الأمن، والفرص الضامنة، والأعمال الفنية التي يجد فيها صدى ذاته المبدعة، ونصاعة طروحاته.
وعلى حد قول الدكتور زكريا ابراهيم: إننا لا نجانب الصواب إذا ما قلنا إن الإشعاع الروحي الذي يتحقق عن طريق الأعمال الفنية، يمثل مدرسة أخلاقية كبرى نتعلم فيها دروس التعاطف، والتناغم، وشتى أحاسيس المشاركة الوجدانية.
المجتمع الذي تديره المؤسسات، وتنظم شؤونه الكفاءات، تتسع فيه مساحات العلم والأدب والفن، وترتفع مناسيب الحرية والإبداع، فتضيق مظاهر الجهل، والتخلف والاضطهاد، وعندئذ تتوسط النهار شمس الثقافة والفنون، فتحرق جراثيم التطرف والطائفية، التي هي ألد أعداء الفن والثقافة والفكر. لذا فإن الأنظمة الشمولية، والبوليسية المتخلفة، تبدع في ابتكار الكوابح بما يتساوق مع منهجها المتطرف، وخطابها الظلامي الدامس، لأن الفن يعني الحرية، والأنظمة المتكلسة لا تؤمن بالحرية، وإن ادعت ذلك زوراً.
الليبرالية إشاعة الحرية، عبر الشعار المحفز للذوات المبدعة وهو "دعه يعمل.. دعه يمر" على الضد من النظام الاشتراكي، إذ إن الفن يسمو بقدر ارتباطه بمصالح الطبقات السفلى، وفي ذلك كابح أيديولوجي، فيه فسحة من الحرية المقيدة، وفي ظل الأنظمة الديمقراطية يفترض أن تأخذ الفنون كفايتها من الرعاية والدعم.
وعلى ما يبدو أن لا نهاية للكوابح التي تلجم صوت الفن والفنان، فلم يزل الفنان يجاهد بعض ذوي الأطروحات المتخلفة والمواقف المتزلفة، وضيق مجالات العمل، وشحة الفرص والمرتبات، ما يضطر بعضهم إلى العمل في بعض المجالات، التي لا تليق بمقام وقدر الفنان، بوصفه رسولاً إنسانياً، وتنويرياً مبشراً بالحب والسلام والجمال للأنام.
وثمة كوابح لم تزل قائمة تعيق مسار الفن لعل أبرزها: عدم إصدار مجلات تعنى بالفنون، وشحة الدعم المالي للمؤسسات صانعة الجمال، كالمعاهد، وكليات الفنون الجميلة، إلى جانب كوابح أخرى ومنها: درس التربية الفنية، الذي هو على هامش الدروس في المؤسسات التربوية، وعدم وجود قاعات "كاليرات" لعرض الأعمال التشكيلية في المحافظات، وكذلك عدم وفرة المسارح في المحافظات خاصة.
نأمل أن تتسع فضاءات الفنون في بغداد والمحافظات لتتنامى وتنشر الجمال الذي يعد العلامة الأبرز في الدلالة على رقي وجمال المدن.