محمد طهمازي
"إن الفن لم يخلق لتزيين الغرف؛ إنه وسيلة يستخدمها الإنسان من أجل الحرب والدفاع عن وجوده وقيمه ضد الأعداء، وكما بدا لنا من خلال المعارك التي مضت أنه على الإنسان أن يستميت في مواجهة كل ما يهدد حريته في الحياة والتعبير عن ذاته- بابلو بيكاسو".
لعل هذا العمل الفني، الذي يحمل اسما مراوغا هو "أحصنة متعبة تحاور العدم"، وبرغم كونه لم يحظ بالاهتمام هو الأقوى من بين أعمال كاظم حيدر ضمن سلسلة ملحمة الشهيد، التي تناولت ملحمة كربلاء من جوانب عدة، لكونه ابتعد عن تمثيل أجواء المعركة والقتل والقتلى، السيوف والدروع، وراح إلى زاوية غير مألوفة في التعبيرية الرمزية في هكذا مواضيع، حيث اختار الجياد بديلا عن الفرسان، جيادا بيضاً على المطلق، ليعبر عن حالة الشعور بالفقدان والضياع متتبعا الرابطة الغريزية القوية التي تنشأ بين الحصان وفارسه، ملقيا عليها شبح الأرامل والأيتام في صهيلها، انتحابهن عويلهم، مانحا صوت الناس الباكين قوة صهيل الخيول ونشيجها المفعم بالألم الخالص.
تتجه الخيول في صهيلها صوب القمر الدامي الذي كان شمسا ذات نهار أفل.. قمر هو التجسد لبوابة يطل منها الفناء ومغيب الأشياء إلى غير رجعة.. هنا ينشئ حيدر حوارية بين خيول هي الأثر الباقي من تلك المعركة لا، بل من تلك الكينونة، وبين قمر العدم الذي يعلو فوق هذا الوجود الصادم في مطبات تلاشيه الممزقة للروح، الوجود المخيب للآمال، المحبط
للطموحات.
اتخذت أرجل الخيول شكل بوابات لمزار كأنها تحولت إلى هيكل ينتصب فوق الجثمان المقدس، أقدامها كأنها غابة من أشجار تورق دموعا وتثمر صراخا، صراخ جراح ما زالت تنزف والدم لم يجف وتهديد العتمة للنور، في تضاد الأبيض ذي المسحة السماوية مع لون الخلفية المعتم العميق، باق وسيستمر. ولا يفوتنا هنا الأداء التقني الذي يظهر جليا حرص كاظم حيدر المصمم على الحدود المستقلة المحددة والحادة للأشكال، تارة بمساحة لونية متضادة وتارة أخرى بحدود خطية كان انضباط أقواسها وامتداداتها أمرا حتميا في تنفيذه
للوحة.
إن محاولة كشف وتحليل منجز كاظم حيدر الذي عاش قلق الفنان وتمرده على واقعه وصراعه مع ذاته لا يمكن أن تكون بمعزل عن قضايا الفن في زمانه، وبالتالي لا يمكن سلخه عن التأثر بأمواج الحداثة التي غمرت قرنه العشرين وبالتالي تفاعل لغته الفنية مع لغتها وما ينطوي عليه من تعاط في الأساليب أو المفاهيم وإغناء لذاكرته البصرية والجمالية والإنسانية لا بد من الخوض في دراسته.
لو تأملت بعين خبيرة في الكتلة المعمارية للخيول هنا لأعادتك إلى لوحة شهيرة هي "مذبحة في كوريا" التي رسمها الإسباني بابلو بيكاسو بطريقته الخاصة متأثرا بلوحة "الثالث من مايو" لمواطنه فرانشيسكو غويا أو كما عرفت باسم "الإعدام رميا بالرصاص" في ميدان مونكلو، وهو أحد الميادين الإسبانية التي شهدت قسوة نابليون إزاء المتمردين المقاومين للاحتلال الفرنسي، حيث يظهر تأثر كاظم حيدر في الفورم المحدد لكتلته المشابهة، لكن على طريقته الخاصة هو الآخر، حيث قام بعملية دمج كتلة المعدومين وكتلة طابور الإعدام في كتلة واحدة في تخريجة فلسفية ذكية لم ينتبه لها أحد في معمارها ولا في رؤيتها التشكيلية فلو تمعنت جيدا في أعناق الخيول الممتدة أفقيا لوجدتها تشبه بنادق تصوب فوهات صهيلها نحو العدو، عدو قد يكون معلنا في زمان ما ومخفيا في آخر، ليقول بأن الدم قد انتصر على السيف وأن المقتول هو الذي قتل القاتل.
إن كاظم حيدر بإحساسه العالي بمسؤولية الفن في جانبه الملتزم حرص على أن يوظف موهبته وفكره في إغناء الذاكرة الإنسانية برؤى بصريّة وفلسفيّة على حد سواء. "من دون الذاكرة لا وجود لنا، ومن دون المسؤولية ربما لا نستحق الوجود - خوزيه
ساراماغو".