وجدان عبد العزيز
لا شك أن تجربة عبدالأمير المجر مع السرد لم تكن قصيرة، إنما حقق فيها الكثير من المنجزات في القصة والرواية عبر عقود من عمره السردي، لكن لم يكن المجر كل هذه العقود مع السرد، إنما هناك اهتمامات شخصية أخرى، ألا وهو عالم الصحافة وهمها الشاغل، والذي أخذ الكثير منه، ونحن إزاء مجموعته "تمثال الملك الباكي"، وضمت عشرين قصة قصيرة كلها جاءت بفنية السرد الذاتي باستثناء القصتين الأخيرتين وهما "الحرب أم أخرى، ونصب الأمهات المجهولات"، فكانت القصص عبارة عن سردية واحدة بمشاهد مختلفة والغالب عليها الفنتازيا، أي أن المجر حاول تناول واقعه الخاص من رؤية غير مألوفة، ليقدم وليجذب المتلقي إلى خصوصية معالجته للمعنى، فجاءت متوالية المشاهد السردية بنسق واحد مع تنوع الموضوعة. والغالب فيها حضور المجر بضمير متكلم يتم التعبير عن أفكاره الداخلية للجمهور، وكأن القصة داخلة في قصة أخرى، فالسرد باستخدام ضمير المتكلم يختفي الزمن فيه، فيكون السارد يقص قصته بنفسه؛ إذ يكون السارد جزءًا من الشخصيات في الحدث، ويستخدم ضمير المتكلم في المتن، بمعنى أن هناك خفايا كثيرة وتوالداً للأحداث بمسار مفتوح، فالمتلقي يلاقي عدم القدرة في الإحاطة بالحقيقة الكاملة والدقيقة للأحداث. ولهذا جاءت قصة "كتاب الخراب" بطريقة السرد الذاتي وطرحت قضية حركة الحياة، وأنها تبادل أدوار، وحتى لو كان الزمن غيره، بمعنى أن الزمن يمثل أوجه الحياة في ربيعها، وحين خريفها. ولولا ثيمة تصاعد التجربة باكتشاف الواقع المتغير من بناء قائم إلى خراب، لأصبحت رتيبة تؤدي لبلادة الفكر الإنساني، رغم هذا أعطت للقراءة وجهاً اكتشافياً آخر وعكست نفسها، حيث استعمل الكاتب نوعاً من اللامعقول في سرد الأحداث.
وجاءت القصة الثانية في تسلسل المجموعة "تشوّه غير ولادي" أيضاً بسرد ذاتي، معتمداً حالة الفنتازيا، حيث روت حكاية نفسه، من القراءة يكبر رأسه، وحين عمل مع التاجر ضمر رأسه وتمدد بطنه، وكذلك قصة "صدى أغنية قديمة" وبالسرد الذاتي وروت عن تصاعد الزمن وحركة الحياة، وهذا الصراع الأزلي بين المكان
والزمان.
يقول الكاتب محمد كمال: "منذ أن وعى الإنسان ذاته وعرف من يكون وهو في صراع متواصل متصاعد مع نفسه، ويسعى لتطوير أدوات الصراع المادية والمعنوية، وتحسين مهارات الكَرِّ والفَرِّ، وتوسيع مساحة الإبادة ضد الخصم، آملًا أن يقضي قضاءً مبرمًا على الخصم، حتى تطمئن نفسه، ولكن لسوء حظه فإن وعيه بذاته يراوغ ولا يدله على ولا يحذره من أن خصمًا جديدًا سيولد من رحم ذاته.. يتوالد الإنسان ويتكاثر، ويتوالد الصراع معه من ذاته ويتصاعد، وهذه هي المأساة الكبرى التي ما زال يعيشها الإنسان إلى
اليوم".
وتأتي قصة "في حضرة الرجل الحكيم" أيضا بطريقة السرد الذاتي، واستعمل سردية اللامعقول، كانت النتيجة من هذا عرض حالة الهيئات الذهنية، التي تحلق فوق الواقع، ورغم حضور الوعي إلا أنه عاش فترة زمنية خارج هذا الوعي، ما يدل على أنه من الممكن للإنسان أن ينخدع بكلام الآخر، ثم يكتشف أنه لا بد من حضور الوعي والإدراك في كل الأوقات حتى لا يقع بالمحظور.
هكذا تعطينا قصص المجر انطباعاً عن لا نهائية السرد يصاحبه تصاعد صراع الأحداث، بحيث نقف بانشداه تعطيل الملكة العقلية وتحويل المتلقي لمجرد هيكل مادي أمام تزاحم الأحداث. لكن المجر يتلافى هذا الأمر في تنمية الوعي بربط المقدمات المنطقية وحركة السرد في نهايتها. فتيار الوعي يتبنى وجهة نظر الراوي من خلال محاولة تكرار عمليات التفكير وثم قصة "تمثال الملك الباكي" بطريقة السرد الذاتي كذلك، وتضمنت الكثير من الأشياء المهمة التي ظهرت واضحة ممكن الوصول إليها وأخرى اختفت بين أسطر القصة تحتاج لأكثر من قراءة. فكانت حكاية تمثال الملك غريبة، إلا أن الكاتب حوّل غرابتها إلى معان ممكن استثمارها في تطهير الذات الإنسانية من الأدران الكثيرة، التي تعلق بها من خلال مسارها في زمنها الذي تعيشه، لتأتي قصة "الجبل الأدهم" بطريقة السرد الذاتي نفسها، لتضيف الأشياء الغريبة واللامعقولة وزمنها سحيق في القدم إلا أنها تحمل زمن الكاتب الواقعي المملوء بالغرابة. ومن خلال هذه المسرودات يتنفس حرية التعبير بوعي، هذا ديدن المجر في مجموعته هذه أو غيرها في امتثال حرية التعبير بوعي، لينهض بمهمة إضاءة الواقع، لكن الكتابة القصصية الإبداعية تمنعه من طرح هذا الأمر بطريقة مباشرة، إنما يعمد للصيغ الفنية القابلة للقراءة والتأويل، لينقلنا لمستوى مناطق العمق في النص، كي نكون ضمن الرؤى الكامنة، فيجعلنا نتبع طريق الخطوات في اكتشاف الحقيقة. وبهذا يكون المجر في المقالة ـ باعتباره كاتب مقالة أيضاـ غيره في القصة بخصوص تكوين موقف محدد وواضح.
وتبقى القصة القصيرة عند الكاتب أداة يمكن من خلالها معالجة القضايا الاجتماعية بطريقة جذابة وعبر قدرتها الجمالية على تكثيف المعاني، وملاعبة اللغة وتشكيلها، لايصال رسالته بأعلى درجات الإتقان والإمتاع. وبالتالي فإن القصص القصيرة تسلط الضوء على موضوعات ذات صبغة مجتمعية وثقافية، محققةً تأثيرًا بالغًا في الذائقة الأدبية والفكرية.
إن مجموعة "تمثال الملك الباكي" لعبد الأمير المجر قابلة لقراءات متعددة كون هناك "تتعدد في الفن والرؤى وتختلف وجهات النظر حيث لا توجد في الفن حقيقة عامة مشتركة، لذلك لا تنشأ مشكلة في الفن اذا اختلفت وجهات نظر الفنانين لشيء واحد" كتاب فلسفة
الجمال.