قاسم سبتي: الأعظميَّة جعلتني حيويَّاً والعوق منحني التحدّي

ثقافة 2024/07/30
...

 بغداد: محمد إسماعيل
 تصوير: خضير العتابي

قهر الفنان قاسم سبتي، عوقه باللعب حارس مرمى، في فريق الأعظمية بكرة القدم، الى جانب انتهازه فرصة هجمات فريقه على الخصم؛ ليمسك بطبشور أو قطعة خشب راسماً فوق الأرض الترابيَّة، لوحات تجعل الأديم ينطق برسائل جمالية، لفتت نظر الناس إليه فشجّعوه على التقديم الى قسم الرسم في كلية الفنون الجميلة.. جامعة بغداد.


سهرات تشكيليَّة
تداعى الفنان سبتي، في استحضار ذكريات كلية الفنون: بعد انتهاء الدوام، مع آخر محاضرة، نتلفلف في حضن المرسم.. وكان عبارة عن قاعة كبيرة، مفاتيحها لدى الفنان الرائد فائق حسن، أطلبها منه لأبيت ليلتي.. أرسم، أنا وأقراني من طلبة قسم الرسم، يسلمني فائق حسن المفاتيح، مشفوعة بشتيمة ودية: ها عروجتي، مداعباً عوقي بشفافية.. أحبها.. لا تجرحني، تخرّجت في كلية الفنون لأعمل أستاذاً لفن التخطيط الهندسي، في الجامعة التكنولوجية وكليتي.. فنون جامعة بغداد نفسها.. أستاذ في كليتين بذات الأوان.. تدرّجت في مرافئ الفن لأنتشر عالمياً، وبعد تقلّبات دارت وسط ضرام حياة معتملة بالفن والحب والكره والجمال والقبح، استقرَّ بي المقام مديراً.. أمتلك قاعة “حوار” للفنون في الوزيرية، ورئيساً لجمعية الفنانين التشكيليين
العراقيين.

زحام جمالي
قاسم سبتي المزحوم بالجمال مكتظاً بعذابات زرقاء.. بوهيميَّة التوثّب، قال لـ “الصباح”: ما زالت ترسّبات النشأة تبسط سطوتها على شخصيتي، مهما عملت بوعي مرن على تفتيت العقد المتكتلة في عمق جوهر ذاتي، مبيّناً: ولدت ونشأت وترعرعت وتشكلت شخصيتي في منطقة شعبيَّة حادة، مثل الأعظمية، وهي سلاح ذو حدين.. حيث هيأتني كي أكون ابن بيئة حيوية.. مليئة بالحياة، لها سلبياتها التي عانيت منها، لكن خلقت عندي تحدياً عميقاً، في البحث عن سبيل لإثبات نفسي وتحقيق ذاتي وبلورة كياني.. معاق في مجتمع يمجّد البطولة والعنف الجسدي ويؤمن بسطوة العضلات المفتولة، ويحتقر الأفكار ويعد الثقافة ميوعة أنثويّة بالنسبة للرجل؛ لذلك هذا التحدي صاغ بداياتي، فالمدينة لم تمدن الوافدين.. بدواً.. من صحارى الرمادي، نالوا درجات علمية أكاديمية جامعية ورتباً عسكرية قيادية، لكن الجذر التكويني ما زال قائماً لا ينفك الشاعر الجمالي المغرق بالرومانسيات، يؤمن
بالقوة!.
مؤكداً: قهرت العوق باللعب حامي هدف متميزاً وصرت أقدم على المشاركة في سباقات السباحة والتفوق على الأصحاء.. تحت مبدأ فطري.. أعمل به من دون قصد “كل ذي عاهة جبار” وأسوق دراجة هوائيّة من دون تلكؤ.. وأمشي مسافات طويلة يعجز عنها من يمتلكون ساقين اثنتين
قويتين.
وعلق الفنان قاسم: أبداً لم أشعر بأنني معاق ولم تتلكأ حياتي عن تطلعات تصطدم بجدار العاهة، قهرت المعوقات وانتصرت على العوق، متفوقاً بالعضلات التي يؤمنون بها، وبالفن وحضور الشخصية - الكاريزما.

عصي وهراوات
وأضاف الفنان قاسم سبتي: اكتشف موهبتي.. واعتنى بي أستاذي الأول نزار الطائي، في المدرسة الابتدائية، أما عندما بلغت الدراسة المتوسطة، فعندها أقدم على تبني مشروعي التشكيلي والاجتماعي الفنان الرائد فاضل عباس.. وعندما تخرجت في المتوسطة درست الإعدادية مساءً، أي حصة الرسم ملغاة فيها؛ لأن الدراسة المسائية لكبار السن، الذين لا وقت ولا مزاج لهم يحتمل الرسم والرياضة.. ليلاً، ومن ثم لا يوجد أستاذ للرسم يأخذ بيدي، ولا حولي طلاب أريحيون يتذوقون الفن، فكلهم شغيلة، التعليم بالنسبة لهم، مجرد إسقاط فرض، معلقاً: لكن عندما دخلت كلية الفنون الجميلة، مسلّحاً بموهبة مدرّبة من تلقاء فطرة الرب.. جلَّ وعلا، مصراً بعناد قوي عابر للتلكؤات.. لا يخضع لمنطق الـ “ما أكدر” بل أقدر على كل شيء.. حد إنجاز المعجزات، لافتاً: الكلية هي البداية الحقيقة لي في احتراف الفن.. رساماً بين أيدي كبار الرواد وأعظم الرسامين.. أساتذة في الكلية، تحيطني فرشاة وإستاندات ولوحات بيض، تغري الرسام بالإقدام على تلويثها بخيالاته اللونيَّة، التي غالباً لا تمت للواقع بصلة، بل تشاكس عوالم منطق الفن نفسه.

جمعية الحب
وأفاد الفنان قاسم سبتي: حكايتي مع جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، اِبتدأت انطلاقاً من يوم 9 نيسان 2003 حين استولى حزب على المبنى الذي فرهده المشاغبون خلال فترة الانفلات جراء فراغ السلطة، كاشفاً: قبل ذلك لم تكن الجمعية تعني لي شيئاً يذكر، برغم عضويتي فيها، لكن عندما رأيت البناية التي أسسها الملك فيصل الثاني للتشكيليين أخذتني الغيرة الثقافية والمشاعر الوطنية والحرص التاريخي على إرث شعبي، منوهاً: الخراب الذي لحق بدوائر الدولة، نسف جمعية التشكيليين التي احتل بنايتها.. كما قلت.. وأؤكد سيطر عليها حزب أخرجناه بالهراوات والعصي مستعينين بالجيش الأمريكي الذي وجه أربع همرات أجبرت الحزب على إخلائها.. محتل طرد محتلاً، فتسلمناها منهم خربة.. رممناها على نفقتنا الشخصية.. أنا وعدد من فنانين لا يريدون جزاءً ولا شكوراً، ليس سوى وجه الجمال
الناصع..

هيبة الفنان
وواصل رئيس جمعية التشكيليين الفنان قاسم سبتي: أصبحت الجمعية واجبي الوطني والثقافي والأخلاقي.. بل هي وجودنا.. أنا وجمع من مخلصين للفن؛ كي أعيد كرامة الثقافة والفن وهيبة الفنان، مشدداً: منذ تسلمنا الجمعية بدأت رحلة الألف ميل، حيث تمكنا.. أنا والزملاء من إعادة تأسيسها وإعمارها وتعظيم وارداتها والارتقاء بأدائها، تقدماً من بغداد الى محافظات العراق كافة الى دول الجوار والمحيط الإقليمي والعالم، من خلال إقامة معارض محلية.. داخل الوطن، وأخرى خارجية، أمّنّا مبالغ لتغطية متطلبات التكافل الاجتماعي للفنانين. حيث صارت جمعية التشكيليين تتكفل بعلاج الفنانين حتى لو تطلب علاجهم خارج العراق وأنشطة ثقافية وإنشاء فروع جديدة في محافظات أهملتها الهيئات الإدارية السابقة علينا.. الموصل والبصرة والناصرية والعمارة وبابل وديالى والأنبار، لا نتردد بتعضيد المعارض المشتركة والشخصية وتنظيم معارض المناسبات إضافة الى جدول سنوي واضح بالمعارض الدورية والندوات والمؤتمرات الكبرى، وفعاليات جمالية تفرضها ظروفها.. نتبناها بجد وإخلاص ومواظبة حد التماهي مع أصحابها رافعين رؤوسهم أمام جمهورهم.. سواء أكان محلياً أو أقصى من ذلك على صعيدي المحافظات ودول العام، متابعاً: ما زلنا نواصل إقامة معارض نوعية في دول عربية وأجنبية.. فرنسا وتونس وبيروت وعمان وتركيا وسواها.. معارض كبرى: السنوي والتشكيليات وجائزة عشتار للشباب والطبيعة والنحت والخزف ومعارض بالمناسبات وأخرى عارضة ومعارض مشتركة وشخصية وسواها لفناني المحافظات في بغداد ومعارض فروع الجمعية.. سنوياً وحين ما
يشاؤون.

تفاؤل مستقبلي
ونوّه قاسم سبتي: ليس انحيازاً، بل أقول الحقيقة بأعلى صوتي: أهم التجارب العربيّة والإقليميّة هو التشكيل العراقي، فهو بموازاة الشعر ثقلاً عربياً.. ذا أهمية قصوى وليس لنا.. سواهما.. التشكيل والشعر، في اجتذاب العالم الخارجي، والى حدٍّ ما المسرح، والآن بزغ مطربون لكن ليس الى الحد الذي يستوقف الأكاديميات الجامعيّة في العالم، مثلما يستوقفها الشعر والتشكيل.. تدرس في الباكلوريوس وتمنح بها شهادات ماجستير ودكتوراه.. ميادين المعرفة والجمال العراقي الأخرى أدنى من ذلك، مواصلاً: حققت جزءاً من تطلعاتي التشكيليّة.. لشخصي ولزملائي ولعموم الثقافة الفنية العراقيّة، وما عفى عليه الزمن ظل رهين القدر.. استغنيت عمّا لم يسعفني القدر في بلوغه، إلا أنني كنت وما زلت أفكر بمعرض نوعي، في فرنسا وأمريكا والصين واليابان وروسيا، وحققت ذلك طامحاً الى تجديد التجارب وتأكيد أثرها، أما الآن فأتمنى فرصاً مماثلة أوفرها للهيئة العامة، من زملائي الفنانين التشكيليين في جمعيتهم التي شرفوني برئاستها.
وتابع سبتي: واحدة من مفاخر جمعية التشكيليين العراقيين، هي علاقتها النبيلة بالزملاء.. أعضاء الهيئة العامة والتشكيلات الثقافية النظيرة.. الحكومية والمجتمعية كافة.. داخل وخارج العراق، داعياً: الى اقتداء خطوات الفناني الرواد الذين أرسوا دعائم الفن التشكيلي العراقي منذ أكثر من قرن، وما زالوا يذكون جمرة الإبداع بتحفيز ذواتنا على مزيد من عطاء، ينطلق من التشكيل الى ميادين جمالية ومعرفية متنوعة.

خارج الصندوق
يفكر رئيس التشكيليين، بمديات تسحقها ريشة وإزميل التشكيلي العراقي، تتخطى أبعاد الزمان والمكان، مستنداً في ذلك الى كون التشكيل العراقي.. كما يراه ويعيشه ويتقنه: فن روحي يدار بسر سحر ملائكي غير منظور.. ندرك أثره ونستشعر أحاسيسه من دون أن نرى المنابع التي تلهم الفنان هذا الزخم المتدفق من عبق الألوان التي تستنشقها العين وتراها الأذن وتتبلبل وظائف الحواس في التماهي معها.. إنها أسرار يعيشها الفنان العراقي، مسحوراً لا يستفيق إلا على لوحة مكتملة أو منحوتة
منتصبة.