الإبداع : وصدمات طفولة وتجارب حياة قاسية
بغداد: مآب عامر
“يمكن لبعض الأشخاص أن يكونوا مبدعين على الرغم من صدمات حياتهم وتحدياتها، يمكنهم الوصول إلى مساحتهم العاطفية والإبداعية وصناعة الموسيقى والأفلام وكتابة الشعر والقصص والروايات والاشتغال على الرسم وتحويل أفكارهم باستمرار إلى واقع مضيء بالنجاح”. هكذا أقرأ دوما وأسمع، وأنا أتساءل هل من الممكن أن تخلق صراعات الطفولة وصدماتها الإبداع الأصيل، أم أن فكرة المقولة لا علاقة لها بالإبداع, وأن المسألة كلها تتعلق بالبحث والخيال والابتكار بذريعة إثبات الوجود؟.
قد يكون للماضي ولذكريات الطفولة أثر كبير بما نكون عليه في المستقبل، كما يقول الشاعر حسين السياب, في محاولة لرسم صورة مغايرة عما نعانيه من فقر أو حرمان أو كبت لمواهبنا. ويرى السياب أن هذا يندرج في محاولة محو صورة مشوشة عن أحلامنا الطفولية، وإثبات وجودنا الآني والمستقبلي.
بالنسبة للسياب، دائما ما كان الهم الأكبر الذي يشغله هو الارتقاء بالأدب والشعر وإشاعة ثقافة القراءة، كما يقول: “كنت مدركا أن الأقدار تأخذنا لطرق لم نكن نخطط لها, قد تكون موازية لما كنا نحلم به في سنين مبكرة من أعمارنا، لكن بوضع مختلف من حيث التفاصيل ومشابه من حيث النجاح والتألق”.
الظروف القاسية
من جهته, يقول الشاعر أحمد كاظم خضير: أتذكر قبل سنين في أيام المدرسة في امتحان اللغة العربية، كان الإنشاء أن نكتب بأحد موضوعين، واحد منهما كان بعنوان لم يغب عن بالي لغاية الآن، هو “ما أجمل الإبداع عندما يخرج من رحم المعاناة”.
كتبت به آنذاك، متخذاً من تفوقي الدراسي مثالاً من دون أن أشير إلى نفسي, كانت أمي قد توفيت قريباً وحالتنا المادية بائسة، وكنت أعمل طوال العطلة الصيفية لشراء ملابس المدرسة، لكني كنت متفوقاً ومعفياً بكل الدروس، وكان المدرسون يحبونني كثيراً.
ويتساءل الشاعر: لكن هل فعلاً تصنع الظروف القاسية الإبداع؟.
ويجيب: لا أظن ذلك، لأن الأمور نسبية أو رمادية، فكثير من الأشخاص ضاع مستقبلهم نتيجة طفولة سيئة، وسلكوا طرقاً أضاعت إبداعهم.
ويضيف: نعم. ربما تكون الذكريات مادة للإبداع كما في رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري، لكن الإبداع بحد ذاته يحتاج إلى مساحة من الترف الفكري أو التفرغ العقلي لترتيب الأفكار، هذه المساحة تقل أو تزداد بحسب معطيات الحياة.
ويتابع: الحال نفسه لمن يولد وبفمه ملعقة من ذهب، ربما يقوده الترف للإبداع وصقل مواهبه وتوفير البيئة المناسبة لإطلاق خياله وترجمة أفكاره.
ويشير إلى أنه لو نظرنا إلى المبدعين عامة وعلاقتهم بظروف الحياة، نجد أنه لا المصاعب تحفز الإبداع ولا الترف يحد منه، وإنما هو أمر نسبي بين أمرين، تدخل فيه عوامل نفسية وتأثيرات سوسيولوجية تختلف من إنسان إلى آخر.
المأساة الإنسانية
قد يكون استقبال الحياة مع حزمة من المشكلات والعقد والصدمات وقودًا مناسبًا لتحريك الإبداع داخل الفرد, كما يقول الشاعر يماني عبد الستار, ولكن إذا سلمنا بتركيز على هذا العامل فقط من دون عوامل أخرى مهمة، فقد نذهب إلى فهم منقوص لحالة الإبداع.
ويرى عبد الستار أنه يمكن للبيئة الصعبة والصدمات أن تقتل الإبداع عبر تدجين العقل إلى الخضوع وممارسة الحياة بنمطيتها العادية، كما يمكنها في نفس الوقت إنعاشه, إذ تكون محفزًا مناسباً لإيجاد طرق غير تقليدية للتعبير عن المأساة الإنسانية، وبالتالي إنجاب أساليب استثنائية وجديدة في التعامل مع الواقع، وذلك يعتمد بشكل لا يمكن تجاهله على وجود الموهبة من الأساس، لذا يمكننا التعامل مع المقولتين على حد سواء بنفس الميزان, وفقا لتعبيره.
تجربة الحياة
من المؤكد في الدراسات النفسية, كما يرى الكاتب والشاعر أحمد شمس, أن مرحلة الطفولة كتجربة يعيشها الإنسان تؤثر في شخصيته بشكل كبير ومباشر, لكن هذه الدراسات قد تكون قد أغفلت دور التنشئة الاجتماعية والغرس الثقافي الذي يحدد استجابة الطفل لتلك التجربة.
ويعتقد شمس بأن الدراسات الحديثة تؤكد أهمية أساليب التنشئة وتفوقها في بناء شخصية الطفل ومهاراته وتوجهاته وميوله. لكن هذا لا يلغي دور التجربة “تجربة الحياة”. ويقول: بالنسبة له فهي تقوم بدور تشكيل جزء كبير من نظام الاستجابات لدى الفرد، لكنها ليست الجزء الذي يقف وراء روح الإبداع فيه بشكل مباشر، إنما النشأة هي التي تزرع وتنمي الإبداع والخيال في ذهنية الإنسان والتي بدورها ستقوم بالاستفادة من تلك التجربة الحياتية التي عاشها، لتوظيفها والاستفادة منها في تعزيز الإبداع والخيال، فالاكتساب بلا تجربة حياتية سيجعله فقيرا للمادة الإبداعية وبالتالي سيكون الخيال فقيرا.
ويتابع: لكننا نتحدث عن العامل المباشر وراء الإبداع الأصيل، وهو الاكتساب والتعلم والتخيل الذي يصنع القاعدة له, التي من خلالها يمكنه توظيف تلك التجربة التي عاشها على مدى حياته، بما فيها تجربة الطفولة بكل تفاصيلها بسعاداتها وصدماتها.
البيئة الصحية
من جهته يقول الشاعر عادل الفتلاوي: لا شكَّ أنَّ لنشأة الإنسان أثرا كبيرا في توجيهِ أفكارهِ وقناعاتهِ وبناء شخصيته وفلسفته الحياتية، بدءًا من البيت والعائلة والمدرسة والأشخاص المؤثرين فيه، فتكوّن حوله ما يشبه دوامةَ الماء التي تكبر حلقاتها شيئًا فشيئًا فتتشكّل عندها رؤيته الشاملة, وفي كثير من الأحيان تعود هذه الحلقات إلى المركز، أي نفسية الأديب والكاتب، فيصبح إبداعه نخبويًا وعميقًا، نتيجة التجارب التي صقلته منذ الطفولة، والتراكمات التي تحدّدُ صفاء تلكَ اللؤلؤة لتخرج لنا ببريقها، مدركين أنها لولا الضغط والمعاناة والألم لم تكن لتتشكل.
ويرى الفتلاوي، أنه في قراءة مبسطة لكثير من روّاد الأدب العربي والعالمي، لا نجد –تقريبًا- مبدعًا في الفكر والفلسفة والرواية والشعر والتمثيل وغيره، إلا وكانت حياته عبارة عن مجموعة كبيرة من الإرهاصات والمفارقات والتحولات والصدمات التي تكون محفّزًا للإبداع، وتكون حياته مادةً تعبّد الطريق الذي يوصله إلينا في الكتابة أو الرسم أو الموسيقى، وكلما كانت هذه التجربة مريرة وقاسية، كان وصولها إلى القلوب صادقًا لصدق مشاعره، وحقيقة التجربة التي خاضها وتركت أثرها في نفسه وإبداعه، ما يجعلنا نرى العالم برؤيته ومنظاره.
ويتابع: أمّا أن يكون إبداعه متكئا على الموهبة وحدها، فبالتأكيد ستكون هذه الموهبة محدودة وناقصة في قدرتها على إيصال مشاعر الألم والمعاناة والتجارب الحياتية من دون تراكمات حقيقية، وشواهد هذا الأمر كثيرة حدّ التواتر.
إثبات الوجود
ولكن الشاعر أحمد ساجت شريف يعتقد بأن الصدمات ومرارة الحياة غير كافيتين للإبداع، ما لم تكن هناك ظروف أخرى تساعد على وجوده. ويقول إن “الكثير ذهب باتجاه الفشل نتيجة لتلك المرحلة العمرية أو لربما الضياع”. ويتابع: لا يمكن أن نشهد إبداعاً من دون اشتغال وترقب ومحاولات, ولعل الصدمات إحداها، فهي جذر السؤال الأول عن وجود الفارق بين المبدع وما حوله. أما مسألة إثبات الوجود غاية في إثباته فقط, أو كونه هدفاً لكل فعل إبداعي، فستكون بآثار عكسية “ونشهد حينها ظاهرة نفسية لا ترى لغيرها من أهمية تذكر، والنماذج من هذا اللون كثيرة”, وفقا لتعبيره.
ويسرد شريف مضيفاً: كانت معلمتي الأولى أهم أسباب تعلقي بالقراءة, فقد أهدتني مجلة للأطفال في مرحلة الصف الأول الابتدائي, ميزتني بذلك في عيد الطالب.
ويشير إلى أنه مع مرارات الحصار وظروفه القاسية التي رافقت الطفولة، بقي هاجس القراءة هو الأهم بالنسبة لي حتى هذه اللحظة، شكلت بعدها مكتبة المنزل المتناقضة محركاً للبحث والاستمرار من دون أن أجدني حتى اللحظة غير هذا القارئ الطفل, ولعلها الصدمة الأهم أن يمنحوك كتاباً أو مجلة في عمر السادسة لتمضي بعيداً من دون أن تخطط ماذا ستقرأ غداً؟ ماذا سيضاف لك مع كل جهد إنساني إبداعي يقع في يديك؟ حينها ستميز فقط أن الحياة بأكملها سطر عليك كتابته بطريقة تشبهك.
إكسير الابتكار
ويرى الشاعر ضرغام عباس، أن المبدع لا يولد أديبًا حتّى تفتح له الحياة ينابيعها وللأبد، أمام بصره وبصيرته، ليغرف منها ما شاء وما لم يشأ. ويقول: هكذا تعلّمتُ منذ نشأتي الأولى ألا إبداع من دون معرفة ولا معرفة من دون قراءة. وكلّ ما بينهما صدف متكررة من طفولة أخذتْ أكثر مما أعطت، وأعطتْ بذرة عارية أمام هبوب الموهبة وربيع الصنعة.
ويضيف عباس: قد تساءلتُ مرارًا: لو أنّني كنت طفلًا سعيدًا هل كنت سأغلق على نفسي أبواب الطفولة ونوافذها؟ ويجيب: لكن السعادة هنا هي لحظة تكرار لمشهد لا يتسع لأكثر من حوارٍ واحد، لأكثر من جوابٍ واحد لطفلٍ لم يرَ في حياته ضوءًا أكبر من محيط دفتره المدرسيّ، ولا حريق أكبر من اشتعال ظهر أخته.
ويرى أن الطفولة وحدها لا تكفي، الصدمات ومرارة الحياة لا تكفي أن تخلق فيك فلاحًا يعرف متى يتسلّقُ عباب السماء، ويخلق من لهاثه مطرًا. ويتابع: كي تكون فلاحًا ماهرًا عليك أن تعرف متى تستدرج الحدائق إليك، عليك أن تعرف الرّياح من أول لسعة، من أول رقصة لشعرة في الرأس، وأن تترك تعاليم الأولين والطفولة؛ لأنها محض تكرار للحظة تكرر المشهد ذاته.
ويقول عباس: وحده الخيال، وحده السؤال، الذي يقدر على إثبات الذات. هو الذي يقدر على حلب ثدي السماء ومدّك بالغذاء الكافي لمواصلة الرحلة. لا يأتي الخيال من فراغ، لا يأتي السؤال من فراغ، إن لم تجعل من ورائك كتبا ومن أمامك كتبا ومن فوقك كتبا ومن تحتك كتبا، مكتبة بحجم الفضاء تستمد منها الخيال، والسؤال، والحيوان، والإنسان، وحساء الخلود.
ويرد مضيفا: لقد رأيتُ قبل فترة وجيزة على إحدى القنوات القضائية كاتبًا قد فاز لتوه بجائزة أدبية تخصّ الرواية. وقد تكلّم بأنّ الإنسان وهو جنين يولد كاتبًا، كذلك الفنان، وأنّ لا مجال للصنعة في هذا الحقل. طبعا هذا الكلام نسبيًا ليس صحيحًا، وأنّ الكتابة هي صنعة، وأنّ الشعر هو صنعة أيضًا، وكلّ باقي الفنون. لا يخلو الإبداع من الصنعة، والصنعة هي إكسير الابتكار والخلق.
فمثلاً “رامبو, لوتريامون، موزارت”، هم إحدى هذه الطفرات في هذا الحقل، ولأنّ الزمن لم يسعفهم في الولوج إلى الصنعة، ماتوا ناقمين على البشرية. لكنها طفرات ولا يمكن الأخذ بها بشكل فعلي، حتّى إنها في بعض مراحلها تُكرر المشهد والفردانية في الكتابة.
أما اليوم فباتت حياة الأدباء - الشعراء والفنانين - مأزومة بالفردانية، ومكتظة بتكرار المشهد بشكلٍ مخزٍ، بل مقرف في معظم الأحيان.
الصدمات تصنع الإبداع
في المقابل ترى الشاعرة عبير السامرائي، أن مقولة (الصدمات تصنع الإبداع) فعّالة وحقيقية, إذ المعاناة والتشظّي والعَوز كلها عوامل تدفع بالبعض للكفاح والانتصار على هذه الظروف وخلق حياة جديدة آمنة للارتقاء بالذات الإنسانية وحملها على الخلق والإبداع، ومنهم أيضا ذوو الهمم، فكم من عالمٍ ومفكر وأديب أحال ما هو عليه من نكوص جسماني لنهوض فكري ومعرفي والأمثلة كثيرة.
ومن منظور آخر فالإبداع, بحسب السامرائي, لا يقتصر على هذه الفئة التي عانت صراعات الطفولة ومرارتها فحسب، بل هو وليد الأشخاص السليمين الذين عاشوا حياة سليمة تتوافر فيها مقومات البيئة الصحية الخالية من الاضطرابات النفسية والجسمانية.
وتتابع بالقول: أنا من هذا الصنف الذي نشأ في أسرة مكللة بالحب والاطمئنان والسلام الروحي، حتى تفجّرت لدي موهبة الكتابة التي عكست الظروف الحياتية والسعادة التي كانت تغمر حياتي من خلال ما كتبت عن الطبيعة والحياة الملونة بالحب والجمال.
بحث وتفكير
في المقابل, ترى الناقدة أشواق النعيمي، أن الإبداع الأصيل بحد ذاته هو قدرة خلاقة وطاقة عقلية يمتلكها الفرد بغض النظر عن طبيعة البيئة المحيطة ومستوى الحياة الاجتماعية واختلاف الظروف الحياتية.
وتقول: على الرغم من أن صراعات العقل الباطن والتفريغ الانفعالي وأحلام اليقظة ولعب الأطفال وإعاقة القمع النفسي بحسب فرويد، يمكن أن تسهم في تشكيل الفكر الإبداعي، لا تعد معاناة مرحلة الطفولة ومرارتها عاملا ضروريا من عوامل تأسيسه. معاناة الطفولة يمكن أن تصقل شخصية الفرد وتمكنه من مواجهة صعوبات الحياة وتقلباتها بنسبة أكبر من الذي عاش طفولة هادئة، وتخلق إصرارا وإرادة صلبة لتحقيق النجاح، ويمكن أن تجعل منه إنسانا سلبيا يحمل في دواخله عقد واضطرابات تلك المرحلة وآلامها النفسية حتى نهاية حياته. المعاناة لا تخلق إبداعا أصيلا ما لم تكن بذرته موجودة فطريا في الإنسان.
وتتابع النعيمي: لنا في بعض المبدعين أمثلة، فهذا أحمد شوقي رائد النهضة الشعرية العربية، الذي ولد ونشأ في قصر أسرته نشأة ارستقراطية ونال عناية استثنائية كونه وحيد والديه، ساهمت طبيعة حياته المبكرة والبيئة المترفة التي ترعرع في كنفها في صقل وتطوير موهبته والتفرغ للشعر ودراسته والإحاطة بآداب اللغات الأخرى من منابعها الأصلية.
أما عن تجربة النعيمي الشخصية “ فلا أنكر أن بعض التحديات دفعتني لمواجهة الذات واستثارة ما خفي من المهارات وإظهارها للعلن”.
وتضيف: لابد من أن أشير بهذا الصدد إلى أهمية المرحلة المبكرة في حياتي التي أسهمت في تفتح الوعي الإدراكي للذة القراءة، مع عدم توفر بدائل لقضاء الوقت الفائض أيام العطل المدرسية الطويلة، فكانت القصص والروايات العربية والمترجمة هي السلوى الوحيدة. كل قراءة مثلت إضافة للتراكم المعرفي، وكل كتاب كان جواز سفر لعالم خيالي مغاير تتشكل ملامحه بحسب الصور الذهنية التي ترسمها براعة المؤلف، وتلتقطها عدسات المخيلة المتعطشة للمزيد دوما. وتشير إلى أن الإبداع في النهاية مهارة لا يمكن أن تزدهر من دون أن تتوفر لها المقومات اللازمة، كالبحث والتأمل والتفكير الخلاق، والسعي لتطوير المهارة الإبداعية، والتحدي المستمر للذات والواقع المحيط.