{وين رايحين؟} النبش في بئر الأحزان

منصة 2024/07/31
...

 د.عواطف نعيم  *

 بعد فترة صمت وانشغال في البحث عما يقال وكيف يقال جاءنا المخرج د. حيدر منعثر ليطرح علينا سؤاله الساخر والمشاكس "وين رايحين؟" نحن الصامتين، المنتظرين، الذين يرون ويغلسون ويغمضون الأعين عما رؤوا ويكتفون بهز رؤوسهم والبسملة والتعوذ والانشغال بما بين أيديهم وما خلفهم، وما يحيق بهم. هو ذات السؤال الذي اعتلى خشبات المسارح العراقية منذ سنوات كل بطريقته وأسلوب اشتغاله ما بين رمزي وتعبيري، وما بين كلاسيكي وتجريبي، وما بين تقليدي وكوريكرافي.. أسئلة ساخرة ومريرة عن: إلى أين ولماذا وماذا بعد وكيف يكون؟ 

يعود منعثر ليقدم لنا عرضه الجديد من فضاء مسرح الرشيد، الذي عرف عنه مخرجا كفوءا وباحثاً مجتهداً وممثلا متميزاً. وحين تلج فضاء مسرح الرشيد يفاجئك من يعلمك أن هناك ظرفاً سيسلم إليك وعليك إلا تفتحه، إلا بعد ايعاز من أصحاب العرض، ولا تعرف ما في الظرف وتنتظر أن تشاهد المسرحية، فلعل فيها اجابات عن سر ذلك الظرف المغلق ومفتاح لفك ألغازه؟ وحين ترفع ناظريك نحو الخشبة تطل عليك مدرجات بارتفاعات متفاوتة سبق لك وشاهدتها في عروض سابقة بطريقة توزيعها وتركيبها، ودمى تجلس على كراسي وضعت على تلك المرتفعات، وهي الأخرى وضعت باتجاهات مختلفة ما بين المواجهة والمعاكسة، وممثلون يواجهون الجمهور وهم جلوس على الكراسي يحدقون في المجهول، ومن يمين خشبة المسرح يعرض فيلم لشخصيات سوف نراها داخل أحداث العرض المسرحي حين تتابع مشاهده. 

المرأة الأولى، وهي تدور في شوارع تعرفها وتغفو في مقعد طائرة ترتفع بها، والمرأة الثانية تتجمل أمام مرآة سبق للمرأة الأولى أن طلت عليها، وفي ذات الشريط المرئي ننتقل إلى ركن من بيت رجل يتحرك في زاوية منه ومعه دمية، ينتهي الفيلم والذي سبقته عبارات تعريفية بأسماء وصور المشاركين بالعرض بطريقة فيها تعريض وتعريف بواقع الحال، وفيها سخرية من تقلبات الأحوال. 

العرض المسرحي يدور في حافلة تنقل مسافرين لا نعرف من هم؟ ولا نعرف وجهتهم، ولا العلاقة التي تربط بينهم؟ وبدل أن نرى سائق الحافلة أمامنا نكتشف أنه في مكان آخر بعيد عن الحافلة يقودها ويتحكم في سرعتها، ولا يلقي بالا لمن معه من الركاب، حتى يبدأ الصدام ما بين المرأة الأولى والرجل، وتدخل المرأة الثانية لفض النزاع ما بين الاثنين. وما بين الاختلاف والخلاف، الذي يدور بين المرأة والرجل يبرز الينا السائق ليعلمنا أن خطباً ما أصاب الحافلة، واللا وضوح في الرؤية حين المسير، وباتت الطرق مجهولة والأشياء المحيطة مغرّبة، غرائبية مضحكة لسائق لا يحسن القيادة، بل ولا يحسن معرفة المسار وبين ركاب ينتابهم الخوف ويفرقهم عن بعضهم الشك والحذر، ثم يزداد الأمر سوءا حين يظهر من بين الركاب زائر ثقيل متطرف الفكر إرهابي التوجه يسعى للجم حرية الفكر وطيّ مخلوقات الله تحت عصابة من السواد والظلامية لا تبشر إلا بالموت والقهر والعبودية. ونحار نحن المنتظرين في قاعة العرض المسرحي والذين أصبحنا جزءا من اللعبة المسرحية بحكم وجود الظرف الذي بين أيدينا والذي يربطنا بالحافلة ومن فيها "وأشهد أني لم أستلم أي ظرف بالرغم من وجودي في الصفوف الأمامية من قاعة العرض في المسرح، لذا لم أعرف ماذا كتب داخل الظرف، وأن أستنتجت الفحوى من خلال أحداث العرض وشفراته" الحافلة ما عادت آمنة بعد أن اخترقتها عصابات "داعش" الإرهابية، وهي لم تكن آمنة أصلا بحكم الجهالة في قيادتها، وبحكم التناطح بين ركابها. وبعد ذلك مع عتمة الرؤية وانشطار دوائر الخوف والشك وبيع الحافلة ومن فيها من قبل السائق إلى "داعش وغير داعش" ممن يملك سلطة التحكم والنفاذ، ومن يمتلك سوط التسيد والاستبداد!  

لنا بعد ذلك أن نسأل: إلى أين نحن ذاهبون وقد اختل الميزان وزاغت البوصلة عن محورها؟ وما بين الترميز والتأويل، وما بين السخرية والجد، وما بين وضوح الصورة وعتمتها، وما بين اشتغالات تقليدية ومحاولة تغيير آلية الاشتغال للخروج بقيم جمالية غابت عن العرض، وللنهوض من تقليدية مكررة إلى حداثة مجددة ومن تفعيل وتفجير للأحداث عبر حالات المواجهة والصدام، وما بين أداء سقط أحياناً في مباشرة وعظية وأداء تماهى مع الحالة الإنسانية حد الوجع مشت بنا الحافلة، التي أرادها ابن حيدر أن تكون وطنا، صاغ لنا د. حيدر منعثر عرضه المسرحي "وين رايحين؟" بذكاء العارف والرائي لحقيقة ما يضطرب، وما يموّر في نفوسنا من أسئلة وحسرات. 

ولعله أوجعنا بكثرة البوح وكثرة القرص كي نستفيق على واقع نحاول أن نجمّله ومستقبل لا نستطيع رؤيته، بسبب التشويش والصخب اليومي المعاش نتلقف تجاذباته ووخزه بالصبر والتمني. 

قد يكون العرض في حلته وآلية الاشتغال فيه وعليه معتادا ومكررا، إلا أن معالجة الفكرة بالاشتغال على فضاءات الخشبة ومهارة الأداء لدى الممثلين كانت واحدة من توجهات الجمهور في التفاعل والتجاوب مع العرض المسرحي وأحداثه. 

"وين رايحين؟" هي عودة مباركة للمسرحي المتميز د. حيدر منعثر بعد توقف  المحارب لاستعادة الأنفاس، ونبارك لفريق العرض لما قدم من مهارات أداء وصدق انتماء، وتحية خاصة لتلك العنيدة الماهرة لمياء بدن، وهي تقف على خشبة مسرح حاضرة واثقة بعد صعاب ومعاناة. تحية لكل من يعمل كي يضيء لنا مسارات الحياة، ويتخذ من المسرح وسيلة للمعرفة والكشف والنقد الواعي كي ندرك ما لنا وما علينا من حقوق وواجبات، وما على الآخر من واجبات عليه تقديمها لنا، وأولها أن نعرف اتجاه حافلة الوطن إلى أين تتجه؟ وكيف التحكم؟ بأزرار الأمان كي تنجو من طوفان الفساد والطائفية والانبطاح.   

                                

*كاتبة ومخرجة مسرحية