ساحة جمال عبد الناصر في دبي

منصة 2024/07/31
...

 عماد جبار


طعم اليوم الذي قضيته في عمّان لم يغادرني: برد النسيم الربيعي والجبال المحيطة بالمدينة مثل أعمام يحيطون بابنة أخيهم الوحيدة. كانت تأشيرة الدعوة لاستلام جائزة "الصدى" الاماراتية الشعرية عام 2000 نافذة لمدة شهر، ورغم أني لم أحب البقاء هناك، كان عليّ أن استنفد مبرراتي في محاولة أن أجد عملا من جهة، لأن الذهاب إلى الإمارات في ذلك الحين كان فرصة لا تعوض حيث لم تكن الامارات تعطي تأشيرات للعراقيين. وثانياً لأني لم أكن أعرف الى أين أذهب بعدها، كان لدي شعور كبير بالضياع، لذا أردت تأجيل خطوة العودة الى بليد قريب الى العراق وقاومته، فقد أضعف وأعود الى بغداد. 

ذهبت الى مجلة الصدى نفسها وتحدثت الى رئيس تحريرها ومدير تحريرها باحثاً عن أية فرصة عمل، فلم أفلح. لم أزعج نفسي كثيرا بالمحاولات وأنا أسمع من اللبنانيين والسوريين والمصريين هناك، أن الناس لا تترك أماكن عملها في الأمارات إلى أن تحال إلى التقاعد. اذا ليس من السهل الحصول على فرصة في هذا التكالب.

سكنت في شقة يبيت في كل غرفة منها ما لا يقل عن خمسة أنفار وهي ملك لباكستاني مولود في النجف، وقد شجعني على الذهاب الى ديوانيات يجلس فيها الشيوخ (شيخ حشر وشيخ ال مكتوم) عندما عرف أني شاعر لكي أمدح الشيوخ فاحصل على فرصة البقاء. كنت أنام وحقيبتي قرب رأسي، وما تبقى من مال الجائزة  في الجيب الداخلي الذي خاطته لي أمي داخل البيجامة.

بقيت ذلك الشهر أتجول في دبي وأسواقها وسط البلد حول ساحة جمال عبد الناصر، فذهبت الى مكتباتها وقرأت بعض الكتب عن تاريخها، وتجولت في أسواق العطارين القديمة. وفي كل تجوالي كنت نادراً ما أرى مواطناً إماراتياً في شوارعها. المدينة كانت تغص بالهنود والباكستانيين والآسيويين. حتى العرب لا يخرجون إلا قليلاً في شوارعها، وكأن الخروج الى الشارع انعكاس لحالة طبقية تحط من مكانة الانسان الاجتماعية.

لم أكن أعرف من الطبخ سوى قلي البيض لكني كنت أحب أن أتجول في أماكن التسوق حتى لو لم أتسوق شيئا، لأملأ عيني من منظر السلع التي كنا نفتقدها أيام الحصار الإقتصادي. كان النظام يوزع الحصة التموينية المليئة بمطحون النوى والمخلوطة بالجص، ويمن علينا بها عندما يزيد فقرة من فقراتها. كان يصدر بهذه الزيادة بيان جمهوري يعلن على تلفزيون بغداد: "مكرمة من السيد الرئيس حفظه الله ورعاه، تقرر زيادة حصة العدس من كيلو لكل فرد الى كيلو ونصف". كذلك كان ذهابي قضاء للوقت المتسع الى أن أغادر عائدا الى عمّان. 

كانت الشوارع ملأى بكل ما هو غير إماراتي في وسط المدينة و أثار انتباهي بائعات الهوى من القوميات والبلدان، فمنهن الروسيات اللواتي كن يجلسن في صالات الفنادق يشجعن فيها النازلين على الإقتراب منهن بالابتسامات ودوائر الدخان التي تعلو خفيفة فوق رؤوسهن. عندما خرجت من الفندق رأيتهن يمشين على الأرصفة قريباً من الشوارع مما يسهل وقوف السيارات والتقاطهن. في الكثير من الأحيان كنت ارى سيارات فارهة تقف لتلقط الروسيات اللواتي كن في الدرجة الأولى من ذلك الصنف، وكان ذلك يحدث في النهار إلى وقت الغروب. 

انتابني كثيراً شعور بالغربة لأني لم أكن أعرف التحدث بالانكليزية، وكنت إذا أردت الإتصال باية دائرة خدمية أو وكالة سفر كان المتحدث يتحدث الانكليزية بلهجة إما آسيوية أو هندية غير مفهومة. كان عدم التحدث بالانكليزية أزمة وجودية كبرى في بلد عربي.

الشوارع بعد منتصف الليل تكون ملكاً لبائعات الهوى الأفريقيات اللواتي لم يسعفهن الحظ في الحصول على فرص في النهار وبداية الليل. وكن طويلات، ضخمات يمشين في الشوارع فاردات أذرعهن وسيقانهن بعد فراغ الشوارع من السيارات يمشين في فوضوية، على شكل جماعات، مسيطرات على الشوارع، دون جدوى. بسبب أو بدون سبب بقيت أولاء الافريقيات في قعر السلم الاجتماعي لبائعات الهوى، لكنهن كن يقمن دكتاتورية البروليتاريا في ليل دبي. وبين تلك المشاهد كان عليّ أن أقضي ما تبقى لكي أذهب إلى مطار دبي لأجد أن عليّ أن أدفع غرامة ثلاثة أيام تجاوز عائدا إلى عمّان ممتلئاً برغبة أن لا أعود إلى بغداد، خائفا أن ينفد باقي المال الذي لا يتجاوز الخمسمئة دولار من أول جائزة كسبتها لكتابتي الشعر، تاركاً ورائي الأفريقيات يحاولن إقامة دكتاتورية البروليتاريا.