أدبُ المستقبلِ ومستقبلُ الأدب
منير بن زيد
ترجمة د. فارس عزيز المدرس
في طرحي هذا الموضوع أنوِّه بأنَّ هذا النوعِ مِن التشخيصِ لا يرجع إلى عدمِ أهمية الأشكالِ القديمة مِن الأدب في عالم اليوم، بل إلى فشلِ الجرأةِ والخيالِ في مواجهةِ الواقع وتأثيراتِ السوق.
إنَّ السيناريوهات والمحاولات المختلفة لرقمنة الكتابِ المطبوع مِن خلالِ الكتب الإلكترونية و”الطباعة المزدوجة”، تهدف إلى أدبِ المستقبل؛ بدلاً مِن مستقبلِ الأدب.
تكمن قيمةُ الأدب في قدرتِه على تحدِّي افتراضاتِنا العالمية، بدلاً مِن تعزيزها. والحجة هي أنَّه لكي يكونَ الأدبُ سليماً ويستمرَ في الازدهار، لا ينبغي أنْ يكونَ مثل الحرباء؛ ويُجبَر على تعديل قيمهِ؛ وفقاً لاحتياجاتِ عصر المعلومات، أو التراجع أمام قوى تذبذب المستهلك. يجب أنْ يتمسَّك الأدبُ بقيمتِه الأساسيةِ المتمثلةِ في اتخاذ المَسار المناسب، بغضِّ النظر عن مدى سوءِ تكيّفه. ويجب على الكُتاب والعلماء اتخاذُ إجراءاتٍ علاجيةٍ ضد البيئةِ غير الصحية للأدب.
لا شكَّ أنَّ الأدبَ شهِد تغيراً كبيراً بسببِ الاستخدام واسع النطاق للتكنولوجيا؛ مثل الإنترنت وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة المحمولة؛ فدخلت صناعةُ النشرِ في حالةٍ مِن الذعر؛ بينما توقفتْ الكتبُ عن العملِ أو تمَّ تحويلُها إلى تنسيقات رقمية.
وفي الواقع راح أعداءُ الأدبِ في كثيرٍ من الأحيان يتشاجرون ويضحكون من الوضع الهشِّ للأدب بطرقٍ مختلفة. وفي السنواتِ القليلةِ الماضية ظهر سيلٌ مِن الكتبِ مثل “موت الأدب” لـ كيرنان، و”الأدب المفقود” لـ إيليس، 1997، و”النقد الأدبي: تشريح الجثة” باورلاين، 1997، و”صعود اللغة الإنجليزية وسقوطها” (شولز)، 1998.
وغالباً ما تظهر ردودُ فعلٍ متشائمةٍ تجاه أزمةِ الأدب، ممَّا يوحي بأنَّ الأمر لم يعُد مجردَ مناوشاتٍ، فمثلُ هذه الكتب تعلِن موتَ الأدبِ صراحةً، وتوضِّح كيف مرَّ الأدبُ بأزمةِ ثقةٍ وتساؤل جذري حول قيمه، وأهميته للإنسانية، وفائدته للمجتمع.
يفنِّدُ خطابي هذا الفرضيةَ القائلةَ بأنَّ الحربَ قد انتهت، وأنَّ عالمَ الأدباءِ لم يتبق منه سوى أنشودةِ رثاءٍ لموت الأدب، وفي الواقع يمكن للمرءِ أنْ يتبيَّن الشعورَ اليائسَ الجديد في رثاء كيرنان للأدب.
يناقشُ كيرنان - بوصفه الحامي لوفاة الأدب – قائلاً: “مرَّ الأدبُ خلال الثلاثين عاماً الماضية أو نحو ذلك، بفترةٍ من الاضطرابات الجذرية التي قلَبت المؤسسة الأدبية وقيمها الأساسية رأساً على عقب”. وبإعلانه عن موت الأدب بطريقة مشابهة لوفاةِ الرب عند نيتشه، يشير كيرنان أيضاً إلى أنَّ “القيمَ الأدبية الرومانسية والحداثية التقليدية قد انقلبت تماماً؛ وأنَّ “المؤلف الذي قيل أنَّ خيالَه الإبداعي هو مصدر الإبداع الأدبي أُعلن موته”.
ذات يومٍ لم يعُد الأدب “معقولاً أو مفيداً في ظلِّ ضغوطِ الظروفِ الجديدة في أواخر القرن العشرين”، ولم يعد له “حتى الآن سوى زمرة من المتابعين، ولا وجود له تقريباً في العالم خارج أقسام الأدب الجامعي”.
ويصور بيرجونزي مزاجاً يائساً مماثلاً؛ من خلال الاعتراف بأنَّ السماءَ سقطت على الأدب. ويذهب: إلى حدِّ القول: “إنَّ تاريخ المعرفةِ الأدبية لا يكشف عن جنَّة يتناغم فيها الجميع”، ودراسةُ الأدب كانت استجابةً لعالَمٍ فاسدٍ للغاية؛ حيث “استمرت القيمُ القديمة تروِّجُ لمجالٍ واحد مهم: “الأدب العظيم، أو نسق معين منه”.
مِن خلالِ تبنِّي وجهةِ نظرٍ متشككةٍ في قوة الأدب، يرى جيرالد غراف أيضا أنَّ المعارضات المختلفة للأدب كانت موجودة منذ البداية، وكثيراً ما أنكر أصحابُها أنَّ “الأدبَ يجب أن يتم تقييمه، لأنَّه يخبرنا بحقائقَ عن الحياة ويساعد الثقافة” فحسب. ويمكن العثور على مثل هذا المزاج اليائس وعسر الهضم في كلماتِ السير والتر رالي المروعة:
الله يغفر لنا جميعا! إذا اتُهمتُ يوم القيامة بتدريس الأدب، فسوف أدعي أنني لم أؤمن به أبداً، وأنني أعيل زوجةً وأطفالًا. (رسالة إلى جورج جوردون - كيرنان).
يربط كيرنان موتَ الأدبِ أيضاً بالوضع المؤسف للنقد الأدبي الذي- وفقًا لمارك باورلين يفتقر إلى المنهجيةِ والانضباط؛ ولا يمكن أنْ ينجوَ مِن انتهاكِ حدوده أو استيعاب طبيعته المتنوعة والفريدة من نوعها، التي “انقلبت على الأدبِ وفكَّكت مبادئه الأساسية”. وكما يقول كيرنان: «إنَّ النقد، الذي كان في يومٍ مِن الأيام الخادمَ الثاني للأدب، أعلن استقلالَه وأصرَّ على أنه أدبٌ أيضاً».
يرى باحثون آخرون أنَّ موتَ الأدبِ ينشأُ مِن موقف سوءِ النية نسبياً، الذي يستخدم معايير مقيِّدة للغاية لماهيَّة الأدب، وما ينبغي أنْ يكون عليه، مما يجعله أكثرَ تجانساً وغير مثير للاهتمام. وفي قلبِ هذا التشاؤم بشأن مستقبل الأدب يكمُن الاعتقاد بأنَّ الشعراءَ يفتقرون إلى الطموح، وهم خجولون للغاية؛ بحيث لا يجرؤون على الأملِ في أنْ تتمكن كلماتُهم مِن تغيير العالم.
ويضيف (آلان بلوم)، أنَّه إذا كان الأدبُ قد مات؛ فذلك يرجع أيضاً إلى آراءِ الفلاسفةِ الألمان مثل نيتشه، الذين قادوا التعليمَ “بعيداً عن النصوص الكلاسيكية والبحث السقراطي عن الخير والحقيقة”.
ويعزو العديدُ مِن الأكاديميين الآخرين تدهورَ مكانةِ الأدب إلى هشاشتِه، وعدم قدرته على تعريف نفسِه أو تقديم مسوغات وجوده الخاصة. وبعبارة أخرى، يفتقر الأدبُ إلى أساس نظري وإلى تنظيم أو تحليل منهجي لأجزائه؛ مما يجعله حقيقياً وذا معنى في العالم الاجتماعي الأوسع ويهيئه لمقاومة هجمات الناشطين الاجتماعيين والمنظرين المتشككين الموجهة إليه.
هناك عامل مهمٌّ آخر يُسهِم في تدهور الأدب، كما لاحظ كيرنان؛ هو الهيمنةُ الحالية لوسائل الإعلام الإلكترونية والتحوُّل مِن الثقافةِ المطبوعة إلى الثقافة الإلكترونية التي حل فيها التلفزيون وأشكال الاتصال الإلكتروني الأخرى محل الكتاب المطبوع. ولقد أثَّر ازدهارُ أجهزة الكمبيوتر والتلفزيون في مكانة الأدبِ مِن خلال “الانتقال مِن الثقافةِ المطبوعة إلى الثقافة الإلكترونية”.
في كتابه «المكتبة الخيالية: مقالة عن الأدب والمجتمع»، أشار كيرنان إلى أنَّ الأدب بتداءً من الستينيات لم يعُد ذا معنى و«عاش أزمةَ ثقة في بعض قيمه الأساسية».
وفي سياق مماثل يشير جراهام سويفت؛ مؤلف كتاب “الأوامر الأخيرة” الذي فاز بجائزة بوكر عام 1996، إلى أنَّ أجهزة القراءة الإلكترونية تهدد مستقبلَ الأدب، وأنَّ الشعبية المتزايدة لمثل هذه الأجهزة أدَّت إلى ظهور كُتابٍ جُدد؛ يقبلون بالحصول على عائداتٍ أقلّ من الكتب الورقية. ويلخِّص كيرنان ببلاغةٍ هذه النقطة الرئيسية في السطور التالية:
لقد حلَّ التلفزيون وغيره من أشكال الاتصال الإلكتروني بشكل متزايد محل الكتاب المطبوع، لاسيما الأدب في شكله المثالي، كمصدر أكثر جاذبية وموثوقية للمعرفة.
إنَّ أزمةَ الأدبِ هي أيضاً أزمةُ موطنٍ، كون مورفولوجيا Morphology (*) الأدب القديم تنتمي إلى مكانٍ بعيد؛ وبيئة اجتماعية وتكنولوجية مختلفة عن بيئتنا، وهي تسعى، بأذرعها المتشابكة، إلى الوصول إلى ارتفاعات لم تعد قادرةً على تسلُّقِها. ويشهد عصر المعلومات مع الإنترنت والهواتف الذكية والتلفزيون عبر الأقمار الصناعية والكابل تدميراً للمَواطن الدلالية والاجتماعية.
وبدلا مِن خدمة الأدب، كتب نقادُ الأدبِ عنه لكسب لقمةِ العيش وفرض مكانتهم الاجتماعية، وبالتالي إظهار “خسّة وفراغ الكتب والقصائد التي طالما تمت قراءتها وتعليمها باعتبارها أعلى إنجازات الروح الإنسانية”.
ويعود زوالُ الأدب أيضاً إلى انهيار التعليم الأدبي والتخلِّي عن “الصفات الفكرية التقليدية للكتب العظيمة وسعيها إلى أفضل مسار للاعتقاد أو العمل” المتمثلة في كلاسيكيات الأدب.
ولمناقشةِ الموقف من “أزمة الأدب” الحالية، لا بد مِن معالجة ثلاث قضايا:
أولا: أصلُ مصطلحِ الأزمة. ثانياً: ما المقصود بأزمة الأدب. ثالثا: بأيِّ معنى مات الأدب؟ وإذا سلمنا أنَّ الأدبَ مات فمَن الذي قتله؟.
في اللغة اليونانية الكلاسيكية خلق مصطلحُ “الأزمة” نطاقاً واسعاً مِن المعاني ومرونة مجازية متعددة الطبقات. طبقات حدَّدت دائماً معاني مختلفة وفرضت قراراتٍ وخياراتٍ بين البدائل الصارخة: كالخلاص أو اللعنة، الحياة أو الموت.
ويشير مفهومُ الأزمةِ إلى الحالة التي يمكن ملاحظتها وإلى الحكم على مسار المرض فيها. وبمعنى آخر تفترض الأزمةُ حالةً ذات معنى مزدوج وحالة موضوعية أو “موقفا مثيرا للقلق”، “نقطة زمنية حاسمة”، وهو قرارٌ أو نقد شخصي للحالة والسعي إلى الشفاء؛ من خلال طرد المرض من الجسم.
وبناءً على هذه النتائج المعجمية فهذه الورقة تعرِّف الأزمةَ ليس على أنها حالةٌ حرجة مثيرة للقلق، أو بدائل قاسية وغير قابلة للتفاوض فحسب، بل هي أيضاً مرحلة في عملية تقدميِّة، وهي قرارٌ ذاتي وتغيير وانتقال مِن حالٍ إلى آخر.
مِن خلالِ دحضِ مفهومِ كيرنان للأدب بوصفه مؤسسةً اجتماعية، والرؤية المروعة لمصطلح “الأزمة” بوصفه لعنةً وموتاً، تطالب الدراسة بدورٍ معياريٍّ للأدب؛ يأخذ بعين الاعتبار سخرية كيرنان الخاطئة هذه.
1. أدب المستقبل
على افتراضِ أنَّ نهاية الكتاب المطبوع تبشر بزوالِ الأدب، فقد تصوَّر العلماءُ سيناريوهاتٍ لا تُعدُّ ولا تحصى لمستقبل الأدب. ويفترض الكثيرُ منهم أنَّ مستقبلَ الأدب يكمن في الكتب الإلكترونية وأجهزة القراءة الإلكترونية الجديدة. ويلاحظ جوميز “على الرغم مِن أنَّ الطباعةَ لم تمُت بعد؛ لكنْ مما لا شك فيه أنه أمرٌ مقزِّزٌ؛ يفضي إلى أنَّ الكتبَ في طريقها للانقراض بالفعل، بينما تستمر الشاشاتُ في شقِّ طريقها ببطء”.
وفي السياقِ نفسِه يؤكِّد جوميز أنَّ الكتبَ المطبوعةَ محكومٌ عليها بالانقراض. وهذه الرؤية السلبية لمستقبل الكتب المطبوعة أدَّتْ إلى وضع الكتب الإلكترونية وسيلةً رئيسية لتقديم جميع أشكال الأعمال الأدبية. ومع تراجع الصحافةِ المطبوعة والمستقبل الخالي من الكتبن أعلن طومسون أنَّ الكتبَ الإلكترونية وغيرها مِن أشكالِ النشر الإلكتروني والطباعة الرقمية قد استحوذت على “بديل جدِّي لمطابع الأوفست التقليدية”.
علاوة على ذلك ساعد مشروعان آخران للكتب الإلكترونية في رقمنة جزءٍ من مجموعات الكتب المطبوعة في المكتبات البحثية الكبرى، وبالتالي جعل ملايين الكتبِ متاحةً لأيِّ شخص لديه اتصال بالإنترنت.
إحدى وسائل رقمنةِ الكتبِ المطبوعةِ وبالتالي الإعلان عن شكلٍ جديد لمستقبل الأدب، هو كِندل Kindle، وهو قارئ إلكتروني يهدف إلى جلب الكتب “المعقل الأخير للتناظرية” إلى العالم الرقمي. وبفضل موقع كِندل - كما لاحظ جيف بيزوس - يجب أنْ يكون القراءُ قادرين على قراءة أي كتاب بأيِّ لغة تمت طباعتها على الإطلاق، سواء كان مطبوعاً أو نفدت طبعته، وباتوا قادرين على شراء هذا الكتاب وتنزيله بأقل من دقيقة.
مع اكتسابِ أجهزة الكمبيوتر القدرةَ على العمل لغوياً، ومع فقدان قدرةُ القراءِ على قراءة صفحة كاملة مِن النص، ظهر الأدب الثنائي (الأدب غير البشري) كنوع جديد مِن الأدب المستقبلي. وكما يفترض سويرسكي بجرأة في كتابه: (مِن الأدب إلى الأدب الثنائي)، سيصبح الكمبيوتريون (مؤلفو الكمبيوتر)، قادرين على إنشاء أعمال أدبية متطورة تتكون مِن قصصٍ قصيرة واقتباسات وأفكار. ويزعم سويرسكي أنه “في مرحلةٍ معينةٍ في المستقبلِ المنظور ستكون أجهزة الكمبيوتر قادرةً على إنشاء أعمال أدبية في حد ذاتها”؛ معلناً عن الانتقال المحتمل من التأليف البشري إلى التأليف الآلي.
ويضيفُ سويرسكي: إذا كان السيناريو هذا صحيحا، فإنَّ “الكتابة الثنائية، كما كتبها الكمبيوتريون ستكون مظهراً لبدايةِ نهايةِ العالم الثقافي كما نعرفه”. وفي المستقبل المتخيل يتوقع أنه سيتم استبدالُ المؤلفين البشريين بالكمبيوتر، والروبوتات التي تحكي القصص، وستتم كتابة الشعر بواسطة الخوارزميات، وسيكتب الكمبيوتر الروايات والسوناتات؛ ليس لإثارة الحبِّ بل لوصف أشياء مثل برامج مكافحة الفيروسات.
2. مستقبل الأدب
خلافاً لهذه السيناريوهات عن هلاك الأدب، فإن ناقوس الموتِ لا يمثل مستقبل الأدب؛ وورقتي هذه تقف على مقولةٍ مفادها أنَّ الأدبَ “لم يمت”، وأنَّ “الخطوةَ الأكثر وضوحاً التي يمكن اتخاذها لوقف الوضع المتدهور للأدب هي” إيقاف الآليةِ الخطأ التي تستمر في صنع حال كهذا، وإلا فالوضعُ يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
وفي محاولةٍ لعكسِ اتجاه تدهور الأدبِ وتقليل سمعته السلبية وتنشيط الانضباط؛ يرى ناثان هولير أنَّ وقف تشريح الأدب يحتاج إلى تحرَّك مشتركٍ إيجابي، وتحصين الذات ضد السلبية وقصر النظر. ويتابع: إنَّ ما نحتاج إليه لإنقاذ الأدب هو “نوع من ميتا meta النوع، (أو نسق أدبي عابر للنوع التقليدي للنوع. المترجم)، الذي يثبت نهايةَ موت النوع الأدبي”، ويضع حداً لهذه السلبية ويدفع بالناس بعيداً “عن تحمُّل موتِ النوع الأدبي وانحداره”.
مِن المؤكد سيكون مِن الخطأ النظر إلى الأدب بوصفه ينتمي إلى مجالٍ مستقلٍّ ورفيع من الحياة الإنسانية، أو النظر إليه بوصفه وجوداً منفصلاً عن متطلبات المجتمع الحديث؛ لكن هذا لا يعني أنَّ الأدبَ تابعٌ؛ أو لا يمكن أنْ يوجد من دونها. ولا شك أنَّ الأدبَ لا يموت؛ بل إنَّ مفاهيمنا الخاصة حوله تتغير فحسب، وإذا كان للأدب أنْ يلعبَ دوراً رئيسياً في السنوات المقبلة، فيتعيَّن عليه أنْ يستعيد مكانته وقيمه الإيجابية المفقودة، وأنْ يستعيدَ سبب وجوده.
وعلى النقيضِ مِن وجهةِ نظر كيرنان الاجتماعية للأدب؛ فإنَّ نمطَ وجودِ الأدب الأصيل ليس كمؤسسة اجتماعية، ومهمته الأساسية تغييرُ الأمور وتحدِّي الوضع الراهن، وليس تعزيز رؤيتنا للواقع وافتراضاتنا الأساسية. وإذا عزَّز الأدبُ افتراضاتٍ ومعايير مجتمعٍ معين، فإنَّ الأدب سوف يتوقف عن الوجود، ويتحول بدلاً من ذلك إلى دعاية متذللة.
إنَّ مأزق كيرنان في الواقع ليس أنه ينظر إلى الأدب بوصفه “واقعاً اجتماعياً عائماً ومتغيراً فحسب، أو أنه يصف الهجوم على الأدب بأنه استيلاء على السلطة، لكنه يجد أنَّ “هناك أشياء قليلة أغرب من العنف وحتى الكراهية التي تم بها تفكيك الأدب القديم، من لدن الذين يكسبون عيشهم من التدريس والكتابة عنه”.
إنَّ العلاجَ الحقيقيَّ لمعضلةِ مستقبلِ الأدب، لا يكمن في إظهار موقف إيجابي أو التعبير عن شعور سلبي بالحنين إلى زمن أفضل فحسب، بل في دعم مبدأ: أنَّ الأدب له حضورٌ في جميع القيم الأخرى للمجتمع. وما نحتاج إليه هو تصوُّر استمراريةِ الأدب في مقاومة الأعراف الاجتماعية، والروح الجديدة لما بعد الصناعة. إنَّ معركة إنقاذ الأدب سيتم كسبها من خلال إعادة التأكيد على سبب وجوده، واستعادة قيمه المفقودة، و”اتخاذ موقف من أجلِ قوةِ وحقيقة التجربة الأدبية، حتى مع ارتباطها بالروح الإنسانية”.
يتمثَّلُ مستقبلُ الأدبِ في خلْقِ واقعٍ خاصٍّ به؛ يتحدَّى ويهاجم افتتان الناسِ بالفورية والغباء الاستهلاكي الذي “تكمن حقيقته في تناقضه المستمر”. ومهمةُ الأدبِ المستقبلية وسبب وجوده ليس خدمة النظام الاجتماعي القائم وقِيمه، بل تجنب نمط التفكير الذي يختزل الحياة إلى مجرَّدِ حساباتٍ ومنطق بارد.
----
المصدر:
Studies in Literature and Language. Mounir BenZid. Vol. 13, No. 4, 2016, pp. 1-5