كمال عبد الرحمن
اشتهرت بين الناس منذ زمن الخليفة أبي جعفر المنصور حتى يومنا هذا قصيدة "صوت صفير البلبل" والمنسوبة ظلما وعدونا إلى الأصمعي، ونحن هنا لا يهمنا سبب تأليف هذه القصيدة وحادثتها المشهورة، ولكن ما يهمنا هو إحقاق الحق وتبرئة الأصمعي منها، فهذه شبه قصيدة وليست قصيدة، وهي ركيكة في ألفاظها فقيرة في معانيها مشوهة أو شائهة في بنائها، فلا يمكن نسبها الى أديب معروف وعالم مشهور هو الأصمعي. ونقدم الأدلة الآتية على "تفاهة ورخص" هذا النص الهجين، والذي لا تقبله الذائقة ولا يرضاه الاصمعي ولا يقبله المنصور أو غيره أو يرضى الاستماع اليه
ثم نؤكد براءة الأصمعي من هذه القصيدة، التي ألصقت به زمنا طويلا من دون أن يعرف أحد ما سبب هذه الفريّة التي اتهم بها الرجل، ومن ألصقها باسمه ونسبها اليه وما السبب في ذلك.
الأصمعي: قبل كل شيء هو ليس بشاعر ولم يكتب قصيدة بحياته وهو (الإمام العلامة الحافظ، حجة الأدب، لسان العرب أبو سعيد عبد الملك بن قريب، اللغوي الأخباري، أحد الأعلام. يقال: اسم أبيه عاصم، ولقبه قريب)، وهو لم يكتب شعرا على الاطلاق كما قلنا، فهل يعقل أن يكتب لغوي أديب (حافظ وناقل لأشعار العرب) وعالم وله مناقشات ومجالسات لغوية مع سيبويه العالم النحوي المعروف، مثل هذه القصيدة "الركيكة المفككة" التي لا لغة فيها، ولا معنى، ولا وزن، وهي قصيدة "صوت صفير البلبل"؟
الأخطاء اللغوية
نذكر أمثلة منها: (هيج قلبي الثملِ) والصواب (هيج قلبي الثملا)، و (يا سيد لي) والصواب (سيدي أو سيدا لي) و (وَقَدْ غَدَا مُهَرْوِلِ) والصواب (غدا مهرولا) و (وَفِتْيَةٍ سَقَوْنَنِي) الصواب (وفتية سقوني) و (كالعسل لي) لا معنى لها، و (بخلعةٍ حمراءُ) والصواب (حمراءَ) وننقل حرفيا بعض ما قاله محمد عودة الحمد في لغة هذه القصيدة:
فكم وكم تيمني/
غزيل عقيقل
والصواب غزيلٌ عقيقلُ بالضم تابع للفاعل المرفوع فكيف يجوز كسره، كما لا توجد في العربية مفردة عقيقل، وقد حاول أحدهم وشرحها بأنها مكونة من كلمتين أي عقيق لي، أي مثل العقيق. فأقول له هذا من أعجب الشروح المضحكة! وهناك مثلها في هذه القصيدة كثير لا أستطيع في هذه العجالة حصرها لكم، وهي مفردات ليست من العربية في شيء مثل الدمدملي والطبطبلي والعرنجل وغيرها، ليست موجودة في معاجم العربية.
وكم أتعجب من اجتهاد بعضهم في شرحها، وهي ساقطة لغة وقواعد إعرابية وليست على قياس لغتنا الفصحى، فالقصيدة قد فاقت بتفاهتها قصيدة "الطرطبه" المنسوبة ظلما للشاعر أبي الطيب المتنبي.
وواضح أن القصيدة هي أرجوزة أو شبه أرجوزة، فمن ابتكرها ولفّقها ونسّبها جهلا الى الأصمعي، يبدو أنه جاهل في معرفة البحور الشعرية، فحاول مطّ بعض الكلمات أو اضافة حرفين عجزا وتخريبا هما حرف (اللام) وحرف (الياء) لإكساب القافية نوعا من الايقاع الموسيقي، أو أحيانا للحفاظ بدون فائدة على وزن القصيدة، ومن ذلك: وَأَنْتَ يَاسَيِّدَ (لِي) *وَسَيِّدِي وَمَوْلَى (لِي) فَقَالَ لاَ لاَ لاَ ثم لاَ لاَ لاَوَلي وَلي يَاوَيْلَ (لِي) فَقُلْتُ لا تُوَلْوِ (لِي) وَبَيِّنِي اللُؤْلُؤَ (لَي) إلاَّ بِطِيْبِ الوَصْلَ (لِي) قَهْوَةً كَالعَسَلَ (لِي) بالزَّهْرِ وَالسُرُورُ (لِي) وَالعُودُ دَنْ دَنْدَنَ (لِي) **وَالطَّبْلُ طَبْ طَبَّلَ (لِي)*طَب طَب طَبَ (لي) وَالسَّقْفُ قَدْ سَقْسَقَ (لِي) وَالرَّقْصُ قَدْ طَبْطَبَ (لِي) حَمْرَاءُ كَالدَّمْ دَمَ (لِي) فِي السُوقِ بالقُلْقُلَ (لِ) خَلْفِي وَمِنْ حُوَيْلَ (لِي) مِنْ خَشْيَةِ العَقَنْقِ (لِي) *حَمْرَاءُ كَالدَّمْ دَمَ
(لِي).
فنلاحظ أن مؤلف هذه القصيدة الهجينة قد حشر الحرفين (لي) بلا سبب ولا معنى، مثلا (لا تولولي) فمن هي التي يأمرها الشاعر بأن لا تولول؟ وما معنى (اللؤلؤ لي)؟ هل له معنى، وكان المفروض اذا أراد التملك أن يقول (لؤلؤي) مثل (كتابي وقلمي) ولا يجوز أن يقول (كتاب لي) و (قلم لي) فهذا لفظ ركيك ومعنى ضعيف لا يليق بشاعر، كما (بطيب الوصل لي) أيضا، لا معنى واضح لها وملصوقة على بعضها لصقا من أجل تشكيل قافية (اللام المكسورة)، و (قهوة كالعسل لي) المعنى مشوه والتركيب ضعيف، و (بالزهر والسرور لي) فما معنى "سرورلي" وهل يرضى أديب كبير ومهم مثل الأصمعي على نفسه هذه الركاكة في التعبير والضعف في اللغة؟ مؤكد أن العالم الذي كان يجالس "سيبويه" ويناقشه في اللغة والنحو يأنف من هذه اللغة المهلهلة، وهو في الاصل بريء كل البراءة من هذه القصيدة، وبصورة عامة فإن هذه القصيدة أو ما يشبه القصيدة، فإنها نص شعري مهلهل يفتقد الى أبسط مقومات القصيدة، والمهم أيضا هو كيف يوافق أبو جعفر المنصور على سماع هذه القصيدة ومجلسه زاخر بالأدباء والعلماء والشعراء الكبار؟ المسألة كلها أكذوبة نَحَلَها أحدهم أو ابتكرها حاقد على الاصمعي وعلى المنصور ومجلسه الزاخر بالعلم والعلماء، وإلا فإن العقل لا يرضى بهذا الركام من الالفاظ ويأتي من يقول عنها أنها قصيدة قرئت في مجلس المنصور فأجازها وقبل بها في مجلسه، ويؤكد كلامنا هذا الأستاذ محمد عودة الحمد حين يقول: "وكل مهتم بالشعر، ودارس لأدق دقائقه يكتشف أن القصيدة هذه كتبها الكاتب الملفق بطريقة مختلقة جدا، بيّن فيها الاختلاق والكذب عروضيا، فهو طبعا ملفق، ولكن ملفق يفهم طبيعة التاريخ، وطبيعة الرجل الذي يريد أن يلفق له هذه التفاهات، قام بكتابة ما كتبه على بحر شعري عربي قديم يسمى الرجز، والمشهور عن الأصمعي أنه كان من المهتمين بجمع الأراجيز العربية القديمة؛ لأنه كان لغويا عظيما، والأراجيز التي كتبها العرب كانت هي مجمع اللغة، ومستقى كل لغوي، ولكنه كان جاهلا بهذا البحر، وسقط في أشياء، لا يقع فيها أبسط دارس لعلم العروض العربي، أبيات لا يستقيم فيها الوزن العروضي، وهي على الشكل التالي، كنموذج للدرس العروضي، وتبيين سقم الأبيات، وسوء فهمها: والبيت الأول في هذه الثلاثة لا يستقيم عروضيا، ولا علاج له. والاثنان الأخريان موزونان على مجزوء الكامل، وهو بحر مقارب
للرجز".
والخلاصة أن كل شيء في هذه القصيدة المسخ يفضح نواياها ويشكك في بنائها، ويجعلها مجرد أرجوزة أو شبه أرجوزة فقدت قيمتها الشعرية، فارتبك بناؤها، وتخلخل عروضها وانكسر وزنها، وجاءت بقافية سمجة هشة غير منسجمة، حاول من كتبها أن يضبط قافتيها (اللام المكسورة) قسرا وذلك بإضافة (لي) في نهاية كل بيت بلا سبب، ولا مسوغ ايقاعي، فوقعت القصيدة في الارباك والركاكة، وما لبثت أن تحولت الى نص كتابي هجين أُلصق ظلما وبهتانا بأديبنا
الأصمعي!