العقل السياسي الأميركي وأبرز مشاريع القضية الفلسطينية (1-3)

العراق 2019/06/17
...

جواد علي كسار
من وباءات العمل السياسي في منطقتنا، ممارسة السياسة بدون ذاكرة، خاصة الذاكرة المدوّنة المتمثلة بالوثيقة والأرشيف، ومن ثمّ تفقد مثل هذه الممارسة التراكم والاستمرارية. الآن يتصاعد الحديث في العالم العربي عن صفقة القرن؛ حديثٌ محاط بسطحيةٍ فجّة، عن غموض هذه الصفقة، وعدم وضوح معالمها وتفصيلاتها، في حين أعتقد بأن العكس هو الصحيح تماماً. فالصفقة في غاية الوضوح بمعالمها، جلية في الكثير من تفصيلاتها، وذلك لو أخذنا بمبدأ التراكم والاستمرار الذي يحكم العقل الأميركي في نظرته إزاء قضية فلسطين.
من قراءة العقل الأميركي نفهم أن أميركا دولة، وليست عائلة أو عشيرة أو قرية، ولهذه الدولة مؤسّسات واضحة، تعضدها مراكز الدراسات، تمدّها بالخبرة وتزودها بالمشورة إزاء أي واقعة، وقضية فلسطين لا تشذّ عن ذلك. على هذا لن تأتي صفقة القرن، خارج نطاق الخبرة الأميركية، ومشاريع إدارتها المتعاقبة خلال أقلّ من قرن أو ثمانين عاماً على وجه التحديد. فبمعرفة هذه المشاريع أو أبرزها، نضع أيدينا على أهمّ عناصر صفقة القرن، من خلال منطق التراكم، الذي يفيد بأن هذه الصفقة، ما هي سوى حصيلة متقدّمة لتلك المشاريع. 
على أساس هذا الفهم وانطلاقاً منه، نقدّم استعراضاً نقدياً لأبرز مشاريع التسوية الأميركية، من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تاريخ تصاعد التواجد الأميركي في منطقتنا، ونموّ تأثيرها في القضية الفلسطينية وصعوده على نحو مكثف، بلوغاً إلى وقتنا الحاضر، وإرهاصات ولادة صفقة القرن!.
 
مشروع اللجنة المشتركة
في 29 كانون الثاني 1946م أعلنت بريطانيا تشكيل لجنة بريطانية ـ أميركية مشتركة للتحقيق في جذور المشكلة الفلسطينية واقتراح حل لها.
بدأت اللجنة أعمالها برئاسة اللورد البريطاني هربرت موريسون (ت: 1965م) وتأييد مباشر من الرئيس الأميركي هاري ترومان (ت: 1972م). بعد أن التقت مجموعة من الشخصيات من ذوي الصلة بالموضوع، واستمعت إلى شهاداتهم، وضعت تقريرها النهائي في 20 نيسان 1946م، وقد نص على ما يلي:
1ـ إدخال مئة ألف مهاجر يهودي جديد إلى فلسطين.
2ـ الإبقاء على الانتداب البريطاني حتى يكون ممكناً قيام دولة أو دول.
3ـ رفع الحظر عن انتقال الأراضي إلى اليهود.
رحبت الحركة الصهيونية بالمشروع، بينما رفضه العرب عندما دعا الملك فاروق (ت: 1965م) إلى اجتماع للملوك والرؤساء العرب عقد فعلا في 28 أيار 1946م بمدينة أنشاص المصرية.
 
ثلاث ملاحظات
يمكن تسجيل الملاحظات الثلاث الآتية حول هذا المشروع:
الملاحظة الأولى: جاءت المشاركة الأميركية في طرح المشروع منسجمة مع التحوّل الذي شهده العالم آنذاك في مراكز القدرة الدولية، إذ بدأت السيطرة والهيمنة على العالم، تتجمّعان عند المركز الأميركي. لذلك جاءت إشارة الموافقة على اشتراك أميركا بالمشروع من الرئيس الأميركي هاري ترومان مباشرة.
الملاحظة الثانية: يبدو واضحاً أن الحركة الصهيونية كانت قد وعت بدقة، التحوّل المذكور في مراكز القوّة الدولية. لذلك نراها انسجمت مباشرة مع مبادرة اشتراك أميركا ودخولها طرفاً في قضيتها، رغم أن القضية الفلسطينية كانت قبل ذلك من مختصّات الشأن البريطاني. لقد مثل انسجام الحركة الصهيونية وقبولها لدخول أميركا طرفاً في قضيتها، الأساس المتين الذي قامت عليه مجموعة من التحوّلات الكبيرة التي شهدتها الصهيونية بعد ذلك التأريخ، وبالطليعة منها إعلان قيام الدولة اليهودية في 15 أيار 1948م. الملاحظة الثالثة: نجد أن المشروع الأميركي ينحاز بلا لبس إلى الجانب اليهودي، وذلك عندما يُطالب بفتح باب الهجرة لمئة ألف يهودي إضافي، ورفع الحظر عن انتقال الأراضي إلى اليهود.
ومن المعروف ما للعنصر البشري من قيمة في مشروع أي كيان سياسي، بينما يكتسب أهمية مضاعفة بالنسبة للكيان اليهودي، بحكم واقع الشتات الذي عليه اليهود في العالم، وبحكم أن اليهود مجرد أقلية في فلسطين إزاء وجود المسلمين والمسيحيين يومذاك.
الكلام نفسه يُقال عن الأرض، إذ لا يمكن تصوّر استكمال أي كيان سياسي لملاكه الطبيعي ـ القانوني بدون حيازته للأرض، وفق المعادلة المعروفة في مقوّمات الدولة الثلاثة؛ الشعب والأرض والسيادة.
أميركا إذن في مشروعها هذا وفرت الملاك والمقوّمات اللازمة، لقيام الكيان السياسي لليهود في فلسطين، من خلال إقرارها ومطالبتها بـ "حقّ" يهودي مزعوم في الأرض والهجرة. هذه هي أميركا في مشروعها الأول الذي مهّدت من خلاله لقيام "إسرائيل". ولم يتغيّر هذا الوجه عبر العقود التالية، وصولاً إلى الطرح الحالي المتمثل بـ "صفقة القرن" كما سنجد ذلك واضحاً في استعراض المشاريع الأميركية التالية لهذا المشروع.
 
مشروع دالاس 1955م
بعد نجاح انقلاب الجيش في مصر بتاريخ 23 تموز 1952م تحرّكت الدبلوماسية الأميركية باتجاه بناء منطقة إقليمية أميركية تابعة لها في العالم العربي، تستند إلى مجموعة ركائز من الأنظمة المحلية، تنتظم في تكتل أو حلف عسكري وسياسي.
في هذا الإطار جاءت الخطوة الأميركية هذه التي تولاها جون فوستر دالاس (ت: 1959م) وزير خارجية أميركا في ذلك الوقت، حينما قام بجولة في المنطقة اشتملت زيارة القاهرة عام 1953م.
خرج دالاس بانطباع أساس من جولته يقوم على ضرورة إنهاء وفض التناقضات الفرعية في المنطقة، لتنفيذ الهدف الأميركي المذكور. من هنا توجهت الجهود الأميركية، بالتحديد في وزارة الخارجية إلى غلق القضية الفلسطينية، ضمن حلّ يستند إلى مصالحة عربية ـ إسرائيلية، كان أساسها ما اشتهر يومذاك بمشروع دالاس. لكن ما هو المشروع الأميركي في أفكاره ومكوّناته الأساسية؟.
في السادس والعشرين من شهر آب عام 1955م تحدّث جون فوستر دالاس وزير خارجية أميركا، عن سياسة بلده في "الشرق الأوسط" فقال: "إن أميركا راغبة في بذل مساعيها لتحقيق تسوية سلمية بين إسرائيل والدول العربية".
على أساس هذا التوجه طرح دالاس مشروعاً لتسوية مشكلة المنطقة من ثلاث نقاط، هي:
1ـ وضع حد لبؤس مليون لاجئ فلسطيني من خلال عودة بعضهم، ضمن الحدود الممكنة، إلى وطنهم الأول فلسطين، وأيضاً عبر توطينهم في المناطق العربية المتواجدين فيها.
2ـ إزالة الخوف الذي يسيطر على دول المنطقة، مما يجعلها عاجزة عن الشعور بالأمان والاطمئنان، ويتمّ ذلك باعتماد إجراءات جماعية لردع أي "عدوان" ودخول الولايات المتحدة وسيطاً ضامناً، في أيّ معاهدات رسمية تُنجز بين الطرفين العربي والإسرائيلي.
3ـ في ما يتعلق بحدود دول المنطقة بما فيها "إسرائيل" اقترح مشروع دالاس تكملة اتفاقات هدنة آذار 1949م، باتفاقات جديدة تنتج عن مفاوضات مباشرة بين أطراف القضية. هذه هي الأفكار الأساسية في مشروع وزير خارجية أميركا. لكن دالاس أضاف في تصريح توضيحي قوله: "لقد فوّضني الرئيس إيزنهاور (ت: 1969م)بالقول، بأنه إذا ما وجد حلّ للمسائل السابقة، فانه يوصي بمساهمة الولايات المتحدة في كلّ تعهّد تعاقدي أو رسمي، يهدف إلى منع أي مجابهة أو كلّ محاولة مهما كان مصدرها، لتعديل الحدود بين إسرائيل وجيرانها العرب، باستعمال القوّة".
 
الملاحظات الناقدة
رفضت سوريا المشروع بينما رحّبت به "إسرائيل" مقابل تحفظ مصري غير رسمي عليه.
أما دولياً فقد تميّز الموقف البريطاني الذي تجاوز تأييد المشروع الأميركي إلى إبداء استعداد المشاركة في تنفيذه!.
بالنسبة لنا يمكن أن نسجّل على المشروع الملاحظات النقدية التالية:
أولا: ينسجم المشروع مع مرحلة السياسة الدولية السائدة يومذاك، تلك المرحلة التي كانت مزيجاً بين حالة المعسكرين والحرب الباردة.
فالمشروع وهو يُطرح أميركياً، تحاول فيه واشنطن كسب أنظمة المنطقة إلى معسكرها، من خلال بناء منطقة نفوذ إقليمية أميركية متحالفة بينها عسكرياً وسياسياً، ومتصلة بالمركز الأميركي. ولما كان هذا الهدف يقتضي نوعاً من التماسك والانسجام بين الأطراف الإقليمية، فإن واشنطن وجدت نفسها مضطرّة للتحرّك خطوة على طريق حلّ مشكلة المنطقة تحقيقاً للهدف المذكور.
إذن لم يكن مقتضى التحرّك نابعاً عن فهم أميركي ذاتي للمشكلة الفلسطينية، كما لم يكن أيضاً استجابة لمسؤولية وواجب تحسّ به أميركا تبعاً لموقعها في السياسة الدولية، بل كان تمثلاً لرغبة واشنطن في تكتيل المزيد من القوى الإقليمية في المنطقة، وضمّهم إلى معسكرها، وذلك في إطار الصراع الذي كانت تشهده آنذاك ساحة السياسة الدولية، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
ثانياً: في نظرة متفحّصة إلى تركيبة نص المشروع من الداخل، نجد أنه يعبّر عن عقلية جون فوستر دالاس في إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة في تلك المرحلة. فالمشروع يتضمن التركيز على النواحي التالية:
1ـ فكرة بناء حلف ثنائي يتسع لاستيعاب باقي الأنظمة في قلب المنطقة العربية.
2ـ يؤكد دور القوّة الأميركية كضامن لتنفيذ المشروع واستمراره.
3ـ يعبّر عن محصلة تتمثل بتكتيل المنطقة العربية لصالح الولايات المتحدة، ضد ما كان دالاس يطلق عليه بخطر "الشيوعية الدولية".
هذه المحاور الثلاثة التي تظهر جلية من تفحّص التركيب الداخلي لنصّ المشروع، كانت تعبّر عن عقلية دالاس وشعاراته في إدارة السياسة الخارجية الأميركية، إذ كان معروفاً أن دالاس يشيد تصوّره لسياسة أميركا عبر ثلاثة مدارات، هي: مدار بناء التكتلات الإقليمية التابعة للولايات المتحدة. واستخدام أميركا لقوّتها العسكرية وقدرتها المخابراتية في تنفيذ الفكرة المذكورة وضمان استمرارها.
 وأخيراً، تبرير كلّ ذلك بخطر موهوم أو مضخّم، أطلق عليه دالاس اصطلاح خطر "الشيوعية الدولية".
ثالثاً: إذا أردنا تفحّص مضمون نص مشروع دالاس، وقراءة مدلولات ذلك فلسطينياً، فسنجد أن أميركا لا تعترف بشيء اسمه القضية الفلسطينية، بل تختزل كلّ شيء إلى قضية اللاجئين وحسب!.
وإذا كان هذا الطرح الذي أعلنه دالاس عام 1955م لا يختلف عن الفهم الذي طواه مشروع واشنطن في برنامج اللجنة المشتركة عام 1946م، فهو لم يختلف مطلقاً إلا نسبياً وبالألفاظ عن الفهم الذي عبّرت عنه الإدارات الأميركية المتعاقبة، خلال الستين أو السبعين سنة الماضية التي فصلت بين مشروع دالاس والدعوة الأميركية الحاضرة إلى "
صفقة القرن".
رابعاً: بعد أن تجاوز مشروع دالاس أساس القضية الفلسطينية بالتعامل مع المشكلة على أنها قضية لاجئين وحسب، نجده ينحاز بشكل مطلق إلى "إسرائيل" من خلال تأكيده مشروعية وجودها أولاً، وإقراره بـ"حقّ" هذا الكيان في "الحدود" الواضحة والثابتة والمعترف بها إقليمياً ودولياً ثانياً، وأخيراً من خلال المطالبة بـ"حقّها" في العلاقات الطبيعية مع جيرانها العرب، وهي العناصر نفسها التي ستبرز في صفقة القرن!.
خامساً: على الصعيد الفني، لاحظ بعض الناقدين أن مشروع دالاس استثمر بشكل فائق التقنية السياسية المتطوّرة لدى الولايات المتحدة، وسخّرها لخدمة هدف سياسي في المشروع. فالمشروع الأميركي، تبعاً لهذا النقد، جزّأ مشكلة المنطقة إلى مشاكل فرعية، وكل فرع فصله إلى وحدات أصغر، وهكذا.
والهدف من هذا الأسلوب يتمثل بتفتيت وحدة المشكلة الأصلية وتشتيت الجهد المركزي المخصّص لها، ثمّ استهلاك الجهد المذكور واستغراقه في التفاصيل، وهذا ما سيتكرّر في صفقة القرن 
أيضاً!.
أخيراً، فإن كلّ تفصيل يُتفق عليه سيعتبره الجميع إنجازاً، بينما يظهر الواقع أن الخاسر الأكبر هم أصحاب القضية الأساسية الواحدة، بينما تكون "إسرائيل" هي الرابحة بلا نقاش، لأنها ستكسب بهذا الأسلوب مرتين؛ مرّة عندما تتفق مع العرب على أي قضية مهما كانت صغيرة وفرعية، ومرّة عندما يقبل العرب بمبدأ تجزئة القضية، وهذا هو منطق صفقة القرن المرتقبة!.
وإذا كان النجاح لم يحالف هذا الأسلوب الأميركي في عام 1955ـ 1956م على اعتبار فشل كلّ المشروع، فإن واشنطن استثمرت هذه التقنية بشكل مرعب من خلال مشروعها في اتفاقات كامب ديفيد عام 1979م، وما ظهر من مقدّمات عملها وطبيعة تعاملها الحاضر، مع أطروحة 
صفقة القرن!.