التداخل السِّيَرِي في العذوبة والعذاب
عبد علي حسن
يعد أدب السيرة واحداً من الفنون السردية التي استأثرت منذ القدم باهتمام العديد من الأدباء والمفكرين والساسة بسبب من قرب هذا الفن من التجارب الشخصية لكاتبها الذي يجد في تفاصيل حياته الماضية مادة أدبية واجتماعية وسياسية وفكرية شكلت وكونت جوانب شخصيته لأنه الأقرب إليها من غيره، كما ويجدها جديرة بالتصريح والكشف عنها، على أن من أهم خصائص فن السيرة هو استخدام المعلومات الحقيقية والوثائق والمصادر الأصلية في إعداد السيرة الذاتية،
فضلاً عن تقديم صورة شاملة وموضوعية عن حياة الشخص وشخصيته من خلال التركيز على جوانب متعددة مثل الخلفية الاجتماعية والعائلية والسياسية والإنجازات والأحداث المؤثرة في حياته؟، وازاء ذلك فإنّ المتلقي لهذه السيرة سيسعى إلى فهم دوافع وفي الوقت الذي تكرّس فيه السيرة الحقائق والأحداث التي وقعت فعلا فإن البعض يتجنب الوقوع في مأزق المكاشفة والمواجهة مع الآخرين أفرادا أو مؤسسات فإنه يلجأ إلى كتابة رواية "التخييل الذاتي" و "رواية السيرة" التي تتضمن أجزاء متخيلة كثيرة تدخل في متن النص السيري، الشخص وإبعاده النفسية والعاطفية والفكرية وتأثيرها في حياة كاتب السيرة الذي يحرص على مبدأ المصداقية في الكشف عن سيرته الذاتية. وإذا كانت هذه السيرة الذاتية تعنى بجانب أو بسيرة حياة كاتبها، فإنَّ هناك نوعاً آخر من السيرة وهو "السيرة الموضوعية" التي تركز على الجوانب الموضوعية والمؤرخة لحياة شخص ما، بدلاً من التركيز على الجوانب الشخصية والذاتية لكاتب هذه السيرة، وهي تعتمد أيضاً على الوثائق والمصادر التاريخية الموثوقة، بدلاً من الاعتماد على ذكريات الشخص أو وجهة نظره الشخصية، وهي تقدم سرداً موضوعياً ودقيقاً للأحداث والمعلومات المتعلقة بحياة الشخص موضوع السيرة بشكل حيادي ومن دون تحيّز. وهذا يعني ضرورة توفر مبدأ الصدق في كتابة هذه السيرة، ووفق المنظومة البنائيَّة السالفة للسيرة بنوعيها الذاتية والموضوعية توصل القاص حسب الله يحيى إلى استنباط عشرين درساً استلهمها في كتابه الجديد "دروس في العذاب والعذوبة" تحت عنوان تجنيسي وهو "سيرة" الصادر عن مطبوعات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين.
لقد مهد الكاتب لسيرته هذه بتمهيد حمل عنوان "أما قبل" مشيراً فيه إلى الظروف الماقبلية التي هيأت لكتابة وإصدار كتابه، وبدافع من الأصدقاء القريبين منه فضلاً عن شعوره بضرورة تدوين سيرته الذاتية عبر حبر أصابعه واقدامه على "كتابة خزينه الذي ظلً محتبساً في ذمة الماضي "فنشرت جريدة "طريق الشعب" ومجلة "الشرارة" فصولاً من هذه السيرة قبل أن تنشرها جريدة "الحقيقة" كاملة على شكل حلقات تحت عنوان "دروس في التربية الديمقراطية" قبل أن يبادر أحد أصدقاء الكاتب بتبني طباعة هذه السيرة متخذة شكل كتاب موثق لأهمية ما ورد
فيها.
ولعلّ ما يميز هذه السيرة وتنفرد به على مستوى البناء الداخلي للنص هو التداخل السيري بين السيرة الموضوعية والسيرة الذاتية، فكاتب السيرة يجعل من السيرة الموضوعية لأخيه الشهيد "وعد الله يحيى النجار" المادة السردية المركزية وتحديدا جزئية اعتقال
وعد الله إلى وقت إعدامه في 24 / 8 / 1964.
إذ وجد السارد في هذه الجزئية من سيرة حياة شقيقه محوراً مركزياً يمثّلُ ويعكس شخصية الشهيد وعد الله النضالية التي وقفت بحزم ضد النظام الجائر الذي جاء اثر انقلاب شباط/ 1963، إذ إن الإيمان الراسخ بقضيته ومعتقده السياسي والحزبي الذي تعرّض من أجله إلى شتى صنوف الملاحقة والسجن من قبل أجهزة الأمن والقضاء المزيف الذي حكم عليه أخيراً بالإعدام الذي استقبله برباطة جأشٍ وإصرار على الجهر بصواب معتقده وإيمانه بقضيته التي وجدها السبيل الوحيد لإنهاء معاناة الشعب العراقي من عوامل القهر والاستغلال، وللصلة القريبة جداً بين كاتب السيرة ووعد الله النجار التي جعلته على مقربة من تلك المواقف النضالية والبطولية التي جعلته رمزاً ومثلاً أعلى في الالتزام الخلقي والوطني والاجتماعي، إلى مستوى ضلوع تلك المواقف في نشأة كاتب السيرة متأثراً بمكونات شخصية شقيقه واستلهام الدروس العشرين من السيرة النضالية للشهيد، تلك الدروس قد أسهمت في تكوين شخصية كاتب السيرة الذي لم يكن حيادياً وهو يسرد سيرة شقيقه، وإنما كان منحازاً إلى مواقف شقيقه التي وجدها سالمة وصحيحة بفعل ما كان يقوم به الشهيد من أفعال وطنية وإنسانية صادقة انعكست على سلوكه الاجتماعي والعائلي والوطني والأخلاقي لتتحول تلك الأفعال إلى ايقونات تعكس الأثر المتطابق بين المعتقد والسلوك.
وقد اتضح ذلك التأثير عند نهاية كل وحدة سردية فيؤكد الدرس الذي تعلمه من شقيقه، وبذلك فقد تداخلت السيرة الموضوعية للشهيد وعد الله بالسيرة الذاتية لكاتب السيرة عبر الكشف عن أثر تلك السيرة الموضوعية في تخليق مكونات كاتب السيرة على شكل دروس أخلاقية واجتماعية ووطنية، ولعل دلالة العنوان تذهب الى ذلك التداخل بين السيرة الموضوعية والسيرة الذاتية، فمفردة العذوبة تستوعب الصلة بين كاتب السيرة وشقيقه والتي أسفرت عن الدروس التي تعلمها الكاتب عبر تأثره بالمواقف الفريدة التي عكست شخصية صاحب السيرة الموضوعية، أما مفردة "العذاب" فهي أشارت بعد قراءة السيرة إلى معاناة وعد الله النجار في مقارعته وتصديه للنظام الدموي الذي جاء إلى رأس السلطة في شباط/ 1963، وفي ذات الوقت فقد تحيل هذه المفردة إلى القلق والضغوط النفسيّة التي تحملتها عائلة وعد الله النجار وهم يعيشون هلع الملاحقة الأمنيّة والتنقل بين السجون العراقيّة التي أودع وعد الله فيها ومحاولات الإذلال التي تعرض لها كل من قام بزيارته الى تلك
السجون.
فكلا الحالين "العذوبة والعذاب" كانت القاسم المشترك بين حياة وعد الله النجار وعائلته التي كان كاتب السيرة واحدا منها، بل الحريص على أن يكون حاضراً في كل تفاصيل هذه الجزئية من حياة وعد الله. فقد حاول كاتب السيرة أن يختار من سيرة الحياة النضالية لشقيقه وعد الله ما يمكن أن يخرج منها بدرس حتى بلغت عشرين درساً شكّلت معالم شخصيته وعلى كافة المستويات، فعلى سبيل المثال فإنّ كاتب السيرة قد تعلّم الدرس الأول من خلال التعامل الأخلاقي النقي بين وعد الله ورفيقاته في الحزب وحرصه على أن يكنَّ في مستوى رفيع من العفّة والرزانة الاجتماعية ما يؤهلهنّ ليكُنّ في موقع قيادة الجماهير النسائية، إذ إن صفاء العلاقة بين وعد الله ورفيقاته قد روّضت الموقف العاطفي والشهوي عند كاتب السيرة وهو مراهق وفي أوج عنفوانه الجنسي، إلّا أن طبيعة وشكل علاقة وعد الله بالنساء كانت درساً لكاتب السيرة لما يمكن أن تكون عليه شخصيته وطبيعة علاقته بالمرأة بشكل عام وبالرفيقات الحزبيات على نحو خاص، وهو درس أخلاقي نبيل عكس نبل ونقاء الشيوعي في تعامله مع المرأة. وفي الدرس الثالث تعلّم كاتب السيرة ألّا يبدو ضعيفاً ومستدراً للعطف وذليلاً أمام الطغاة حين أصرّ وعد الله طالباً من أبيه ألّا يحاول تقبيل يد مدير السجن مقابل الاهتمام بوعد الله ومسامحته على موقفه حين أضرب عن الطعام احتجاجاً على ما يفعله مدير السجن من سرقة مخصصات طعام السجناء (انحنى أبي يريد تقبيل يد المدير حتى يكسب ودّه.. رآه وعد الله فخاطب أبي:
- أبي.. لست أبي إن قبّلت يده.. لا أريد أن أراك تقبّل يداً فاسدة مجرمة.
ثم وجه السؤال لي:
- حسيب .. اذا كنت تريد أن تفعل مثل ابيك.. فأنا لا أريد رؤيتكما)
إذ إن موقف وعد الله هذا قد الهم كاتب السيرة لتعلم درس الصلابة والوقوف بقوة وإصرار ضد الظلم والفساد من دون إذلال ولا تسوّل ود أو شفقة. وفي "الدرس الأخير" الخاص بليلة إعدام وعد الله النجار 24 / 8 / 1964 حيث سمحوا لعائلته بزيارته الأخيرة، راودت حسيب مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالكيفية التي سيستقبل فيها وعد الله لحظة إعدامه، فقد كان يراقب عن كثب حركاته وكلامه وتصرفاته، فوجده قوي الشكيمة غير آبهٍ لتلك اللحظة، وكان لا بدَّ له من توجيه الحديث لأمه وأبيه: (أعذراني فقد سببت لكما الكثير من الأحزان والعذاب والمآسي.. صدقوني أن هذه الأحزان ستكون مفاتيحَ لأفراح الناس القادمين) فقد تعلم حسيب درسه الأخير من ثبات وعد الله النجار في مواجهة الموت، إذ كان إيمانه الراسخ بعقيدته هو الفيصل في مواجهة كهذه.
لقد أسهم الأسلوب السردي في كتابة "دروس في العذوبة والعذاب" في تعزيز العناصر السردية في التداخل بين السيرة الذاتية والسيرة الموضوعية، فقد حافظ الكاتب على التوازن في السرد بين التركيز على تجاربه الشخصية والسياق الموضوعي للأحداث الخاصة بجزيئية السيرة الموضوعية وعد الله النجار من دون رجحان كفة سيرة على أخرى، كما أن الرؤية الشخصية لكاتب السيرة وإدراج الانطباعات والتحليلات للأحداث والشخصيات قد أضفت عمقاً على السرد وساعد المتلقي على فهم الدوافع الكامنة وراء الأحداث المسترجعة التي يعوزها التوثيق بالوثائق والتقاويم المسيرة إلى زمان ومكان وقوعها، إذ كان السرد الفني هو قصدية مركزية تتمتع بقدرة الكاتب في إدارة السرد والاعتناء بلغة فنية مؤثرة، كما تمكن الكاتب من تقديم خلفية موضوعية للسياق التاريخي والاجتماعي والسياسي للأحداث مع الحرص على المصداقية والحقيقية فيما جرى وفق انتقالات سلسة بين ما هو ذاتي وموضوعي من دون أن يشكّل ذلك انقطاعاً في تدفق السرد، وهذه العناصر الواردة مجتمعة قد ساعدت على خلق سيرة ذاتية متوازنة وقوية جذبت المتلقي وعمّقت من فهمه للتجربة
الإنسانية.