الإنسان الحرّ عند سبينوزا

ثقافة 2024/08/14
...






علي حبيب بيرماني 





وُلد بنتو سبينوزا في 24 نوفمبر 1632، من عائلة ميسورة الحال، وعلى الرغم من قلّة التفاصيل بشأن فترة شبابه وكذلك فترة (الحرم) الحظر من الديانة اليهوديَّة لأسباب غير واضحة بتهمة (الهرطقات البغيضة والأعمال الوحشيَّة)! إلّا أنه بالمجمل هناك تفاصيل لا بأس بها عن حياته.

توفي بنتو (باروخ) سبينوزا في فبراير 1677.

 نشر بعض من الاصدقاء كتاباته غير المنشورة المكتوبة باللاتينيَّة والهولنديَّة، بعد أنْ تمَّ تدمير أغلب مراسلاته الشخصيَّة، وهذا الفعل بما يتّسم من خصوصيَّة للفيلسوف، إلّا أنه حرم القارئ من معرفة تفاصيل كثيرة عن حياته والأمور غير الفلسفيَّة. فلم يبقَ إلّا القليل مما ورد في كتابه (رسالة في إصلاح العقل) والسيرة المنقولة من بعض أصدقائه.



على الرغم من توافر الظروف الملائمة لفتح آفاق في العمل مع أخيه في التجارة، إلّا أنه لم يكن مشغولاً في الثراء، اعتقاداً منه أنَّ السعادة السامية (اليوديمونيا) تكمن في محلّ آخر غير الحياة التجاريَّة. إذ يقول: “إنَّ أكثر الأمور تواتراً في حياة الناس، تلك التي ينظرون إليها، مثلما يستخلص من أعمالهم كلها، على أنها الخير الأعظم، إنما تنحصر في ثلاثة: الثراء والمجد واللذة الحسيَّة، وهي تشغل الفكر عن التركيز على أيِّ خير آخر... المتعة حزن شديد يُربك الفكر ويُضعفه ويُثبطه، أمّا السعي إلى الثراء والمجد، فهو لا يشغل الفكر أقلّ من اللذة؛ ولا سيما إذا كنا نبحث عن لذات السعي إلى الثراء، لأنه سيظهر آنذاك بمظهر الخير الأعظم” (رسالة في إصلاح العقل). 

لم يرَ سبينوزا السعادة الحقيقيَّة تتحقق بالمال، إذ إنَّ شروعه في ترك حياة الثراء والمجد، يعدّ محاولة لإعادة النظر والبدء في أسلوب حياة جديد متمثل في البحث عن (السعادة الحقيقيَّة) المتمثلة بإنشاء فلسفة أخلاقيَّة بالمعنى الواسع للكلمة، وليس في تحقيق الرفاه الشخصي، وإنما تكريس جهده وحياته للإرشاد في كيفيَّة أنْ يحيا الإنسان حياةً طيبة.

والتي تبقى منقوصة دون تحقيق شرط الحريَّة، إذ بالحريَّة فقط، يمكن للإنسان أنْ يصل إلى الحياة الطيبة، وهي الازدهار الإنساني الحقيقي الذي يجعل من الإنسان كائناً أشبه بالإله أو الطبيعة.

 فقد ركز سبينوزا على الحقِّ في حريَّة الفكر والتعبير بوصفها حريَّة شخصيَّة ومدنيَّة ودينيَّة، ولا يجوز لأيِّ سلطة وبالأخص السلطة الدينيَّة (الكنسيَّة) التدخّل في حريَّة الفرد في التفلسف، إنَّ “حقَّ السلطات العليا في ما يتعلق بكلّ من المسائل المقدّسة والدنيويَّة يجب أنْ يتعلّق بالأفعال فحسب. ينبغي منح كلِّ شخص الحقَّ في التفكير في ما يُريد وفي قول ما يُفكّر فيه” (رسالة في اللاهوت والسياسة). ومما لاشك فيه أنَّ جرأة سبينوزا في طرحه الأفكار حول السلطة وكذلك آراؤه، ووجهات النظر التي تخصّ موضوعة الله، والإنجيل والروح وغيرها من الموضوعات الفلسفيَّة واللاهوتيَّة، التي كان يناقشها، كان لها الأثر في أمر (الحرم) من الديانة اليهوديَّة، كما أشار إلى ذلك (ستيفن نادلر). 

فالإنسان الحرّ عند سبينوزا هو المسيطر على حياته “إنه يفعل بدلاً من أنْ ينفعل، وما يرغب به يسترشد به من الداخل، بالمعرفة وليس بالخيال أو العاطفة أو الهوى. فالإنسان الحرّ يقوده العقل، وليس الهوى. إنَّ حياة الإنسان الحرّ، باختصار، هي الحياة النموذجيَّة للإنسان”. (ستيفن نادلر: فكر أقل في الموت). 

كانت وما زالت فلسفة سبينوزا، فلسفة تُثير الجدل بما تحتوي من آراء من الصعب البتّ بها، لذلك هناك من يزجّ به ضمن التيار الإلحادي والبعض الآخر يضمّه التيار المؤمن. بسبب نظرته الحلوليَّة للوجود، المتمثلة في عدِّه الله والعالم شيئاً واحداً لا غير. فالله ليس متمايزاً عن الطبيعة نفسها، بمعنى أدقّ أنَّ الله هو الطبيعة، والطبيعيَّة هي كلّ ما هنالك. وكلّ ما يحدث في الطبيعة يحدث بطريقة عمياء مطلقة بحكم قوانين الطبيعة، أي وفق (الضرورة). فلا الطبيعة نفسها ولا أيّ شيء فيها أمكن له أنْ يكون خلاف ما عليه.


فيعد  سبينوزا الإنسان الحرّ هو ذلك الإنسان الذي يسيطر على انفعالاته. أو بمعنى آخر هو (نموذج الطبيعة البشريَّة).

أمّا في ما يتعلق بالحريَّة المطلقة فهي مخصوصة لله أو الطبيعة، فهما وحدهما يوجدان ويفعلان انطلاقاً من ضرورة طبيعتهما وحدها. وفي ما يخص الأفراد المتناهين ضمن الطبيعة، الذين يتأثرون دائماً بأشياء متناهية أخرى خارجة عنهم، يمكن أنْ يكونوا أكثر أو أقل حريَّة، لأنهم يمكن أنْ يكونوا أكثر أو أقلّ تعيُّناً ذاتياً. وبقدر ما يقوم إنسانٌ ما بما هو تعبيرٌ عن طبيعته وحدها، فهو فاعل وحر؛ وبقدر ما يقوم بما هو تعبيرٌ عن طبيعته وطبيعة الأشياء الخارجيَّة التي تؤثر فيه، فهو منفعل وغير حر (عبد). أي بمعنى آخر ، فأنا إذا فعلت ما أفعله بسبب ما أنا عليه جوهرياً أكون أكثر حريَّة من أنْ أفعل ذلك، لأنَّ شيئاً معيّناً مغرياً بعذوبة يدفعني إلى فعله. فالإنسان يكون حراً حينما تكون أفكاره أكثر فاعليَّة وتأثير، من أهوائه أو أفكاره غير التامة (نابعة من الحسّ والخيال)، وأنَّ قوة هذه “الرغبات ونموها إنما تتعين بقوة الأشياء الخارجيَّة، لا بقوة الإنسان”. (سبينوزا: الإتيقا). وكذلك حتى الأشخاص المهمومون إلى السعي وراء المعرفة، ليسوا دائماً مُتعينين للفعل من خلال هذه الأفكار التامّة. فيشير نادلر، إلى أنَّ فلسفة سبينوزا الأخلاقيَّة تنطوي على سلسلة من التكافؤات. فالفاعليَّة هي الحريَّة عينها، والحريَّة هي عينها كينونة التعيُّن الذاتي، وكينونة التعيّن الذاتي هي عينها الكينونة في مثل هذه الحالة التي تنتج عن طبيعة المرء الفكريَّة وحدها، لا عن طبيعة الأشياء الخارجيَّة. فالإنسان الفاضل عند سبينوزا هو ذلك الإنسان الذي يتصرَّف وفقاً لطبيعته الإنسانيَّة ويعمل من أجل الحفاظ على كينونته، الفضيلة ببساطة هي السعي بنجاح إلى الاستمرار، فإنَّ نقيض الفضيلة عنده ليس الرذيلة بل العجز، أي أنَّ الإنسان العاجز هو الذي يتصرَّف وفقاً لطبيعة الأشياء، فإنَّ الإنسان الفاضل هو الإنسان القوي، الذي يتحكم بزمام نفسه ولا يجعل من شيء خارجي يستحوذ عليه، أو يؤثر فيه. إذن فالفاضل هو ذلك الإنسان الحرّ الذي لا يُملي عليه شيء خارجي قراراته. فإنَّ حياة المعقوليَّة والحريَّة والفضيلة قائمة على أساس ميتافيزيقي لأنها تمثل أعلى تعبير عن طبيعتنا وذروة ازدهار الإنسان.


وهذا لا يدلّ بالتأكيد على أنَّ الإنسان الحر كائن منعزل، غير اجتماعي، أي ضرب من الناسك العقلي الذي يتحاشى العلاقات مع الآخرين ويتجنّب بزهد الانخراط في العالم، لأنَّ الأشياء الخارجيَّة من الممكن أنْ تكون مصدراً مهمّاً للفرح الذي يسبّب زيادة في الكوناتوس (القوة لدى الفرد) فإنَّ العقل ينص على وجوب البحث عن مثل هذه الأشياء الحسنة التي تساعد في الحفاظ على كينونتنا وزيادة قوتها. ما يريد سبينوزا وصفه بأنَّ الإنسان الحرّ، ليس ذلك الإنسان المنعزل اجتماعياً أو المغترب وإنّما ذلك المنخرط في الحياة، غير المتطرف والوسطي، وليس ذلك الزاهد، وإنما عليه أنْ يغذي جسده بالطعام الجيد، من غير الإفراط في الطعام والشراب.

 كذلك لن تكون حياته معتمدة على إنكار الذات للمتع الجسديَّة، بل عليه أنْ يحافظ على كينونته وتزويد الكوناتوس بما يحتاج من طاقة. إذ يحث كذلك على الزواج كمصدر مهم لتغذية الكوناتوس، ليس لغرض الإثارة من كائن جميل، وإنما الرغبة في الإنجاب.