أحمد عبد الحسين
اسمها إسرائيل، القصيدة التي كتبها بورخس في تمجيد إسرائيل. وهي، على قصرها، نشيد ملحميّ. فقد حشّد فيها كلَّ ما في رأسه “وتعرفون أنَّ رأس بورخس مكتبة مترامية الأطراف” من مجدٍ لليهوديّ عبر التاريخ، لكنْ بصوتٍ تراجيديّ، صوتٍ يكاد يكون توراتياً صادراً عن فمِ إله.
اللحن الذي في القصيدة لحن مكرّر في العهد القديم “في سفر أيوب كما في أشعيا وأرميا والأمثال والمزامير” قوامه الإشارة إلى الكائن الضعيف المظلوم المضطهد المُساء فهمه والملعون من قبل الناس، ثمّ التنبؤ بإنصافه والأخذ بثأره وإعلائه والاقتصاص من مضطهديه ولاعنيه.
إسرائيل في القصيدة رجلٌ حَكمَ عليه التاريخُ الأسود “الذي هو تاريخ العالم” بالأوصاف التالية: “سجين، مجنون، شايلوك، منحنٍ على الأرض، أعمى، مفروضٌ على وجهه أنْ يكون قناعاً، سُبّة، رجس، مرجوم بالحجارة، محترق في الأفران ثم أخيراً هذه الصفة التي كانت أكبر سيئاته وحسناته في آن: إنه يهوديّ”!
بعد هذه الجردة من النعوت التي لَصقتْ باليهوديّ دلالة على مظلوميته الكونية، يبدأ نشيد الملحمة البورخسية التوراتية بتمرير يد البركة على رأس طفل العالم المظلوم وتمجيده وتطويبه وجعله خارقاً للطبيعة البشرية، إلهياً.
هنا مثلما في كلِّ مرّة، يقف اليهوديّ في مقابل العالم كلّه، وينتصر على العالم، ينتصر في القصيدة كما انتصر في التوراة. فهو وإنْ كان أفعى لكنه “الأفعى التي تحرس لنا الذهب”، وصحيح أنه أعمى لكنه “الأعمى الذي حطم الهيكل”، نعم هو ينحني على الأرض لكنه “يعلم أنه قادم من الفردوس”، وهو في الجحيم لكنَّ “فمه يسبّح بعدالة السماء”. وحتى اليهوديّ العاديّ “الذي يعطيه بورخس مهنة طبيب أسنان” يكلّم الله فوق الجبل. كل يهودي هو سبينوزا. لا بل إنَّ بورخس يغدق عليه بالكلمة الأثيرة لديه والتي هي كنز كنوزه، إنه يسميه “الكتاب”. ومعلوم أنَّ بورخس حين يسمّي أحداً ما بالكتاب فهو يريد أنْ يقول إنه الله .. تقريباً:
“رجلٌ هو الكتاب!
رجلٌ يصرّ على أنْ يكون خالداً”.
وما دليل بورخس على أنَّ هذا الكائن خالد؟ دليله على ذلك أنه عاد من التيه وأسّس دولته “إسرائيل”:
“عاد الآن إلى معركته
إلى ضوء النصر العنيف
بهياً مثل أسدٍ في شمس الظهيرة”.
القصيدة كاشفة عن هشاشة الشعراء، فهم سريعو الذوبان في هوس التاريخي، مهيؤون لإلقاء نشيد عن المجد في أول فرصة تسنح لهم. إيمانهم باللغة باب مشرعة تفضي إلى حماسةِ تطويب كلِّ مَنْ يرونه ملائماً لمقاس هذه اللغة. الشاعر ضعيف البنية الوجدانيّة، خياله الفنيّ معافى، لكنَّ خياله الاجتماعيّ مصاب بأنيميا مزمنة، متهالك يتحرّق لإيجاد تمثال يصبغه بألوان جميلة يدّخرها في أعماقه طويلاً. ألم يكن المتنبي كذلك وهو يمدح من يمدح، هكذا كان بورخس في قصيدته هذه.
ومن الطريف أني وجدتُ سفير الكيان في إسبانيا قد ترجم هذه القصيدة من الإسبانية إلى العبرية وأرسلها لبعض الصحف لنشرها في ذكرى تأسيس دولته.
لا أعرف، ولن يعرف أحد ما سيكون رأي بورخس وهو يرى ما أسماه “النصر العنيف” الذي يحرزه الإله الأسد الإسرائيليّ في غزّة هذه الأيام!