المنبرُ الحُسينيُّ.. وعظٌ وإرشادٌ دينيٌّ وأخلاقيٌّ بنفحاتٍ حُسينيَّة

ريبورتاج 2024/08/21
...

 رحيم رزاق الجبوري

يعد المنبر الحسينيّ، أحد أهم الوسائل الخطابية الدينية المنتشرة في المجتمعات الإسلامية، ويستهدف جميع شرائح المجتمع بلغة وأسلوب منفردين، ولا يخلو من شحن العواطف وإلهاب المشاعر وإذكائها، متسلحاً بفيض القضية الحسينية وروافدها الدينية والفكرية والإنسانية.كما أنه يغذي ويعزز المثل والقيم العليا للإسلام الحنيف، وثوابته الأخلاقية. فضلا عن إلهامه لعناصر الإرادة والعزيمة والمقاومة والصمود والتحدي أمام الصعوبات عبر خطاب تبليغي توعوي فكري تثقيفي هادف، وأيضاً يحمل مضامين معنوية ونفسية تؤثر في وجدان الجماهير ومشاعرهم، متصدياً لكل أنواع الظلم والطغيان والفساد التي تواجه المجتمع والأفراد، والظواهر السلبية التي تصيبهم.
 إضافة إلى بثه لروح الوعي والحماس في أجسادهم. كما أن المنبر الحسيني يسهم في ديمومة جذوة الثورة الحسينيّة، ويبقيها متقدة ومتوهجة بمبادئها السامية ورسالتها الخالدة، وهو صرخة الشرفاء وأصحاب الحق في كل زمان ومكان. فهذه الوسيلة الثقافية التوعوية الإرشادية التي تساعد في إيصال الأفكار والرؤى إلى الناس، يجب أن تحافظ على مستواها العلمي والمعرفي الرصين، ومضمونها الديني العميق، وأن يقوم الخطباء والعلماء كافة بتبليغ الرسالة بأمانة وشجاعة وحكمة وعلم ومعرفة، ولذلك علينا جميعاً العمل على تطويرها والنهوض بها، من أجل تقديم خطاب منبري متميز ومتّزن، ومتسلّح بالعلم والمعرفة والتجديد وثقافة الإقناع، ومتزود بالوعي والحكمة؛ لأنه كان وما زال وسيبقى من أكثر الوسائل تأثيراً في قلوب وأفئدة الجماهير.

نظرة نقديَّةُ
إلى ذلك، يقول د. علي حسين يوسف (أستاذ النقد المعاصر): «إن أدب المنبر الحسيني هو نوع من الأدب الديني الذي يلعب دوراً محورياً في الثقافة الإسلامية الشيعية، حيث يتركز حول ذكرى واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين بن علي(ع) وأصحابه. ويمتاز بعمق عاطفي وفكري، حيث يمتزج فيه الشعر والخطابة والحكايات التاريخية ليشكل تجربة دينية وثقافية فريدة. فهو فضاء يعبر فيه الخطيب عن مشاعر الحزن والأسى، لكنه يتجاوز ذلك ليصل إلى أبعاد فلسفية وأخلاقية عميقة، من خلال القصص والقصائد، ويتم التأمل في معاني التضحية والعدالة والحرية. كما أن هذا الأدب لا يقتصر على استحضار الماضي، بل يهدف إلى استلهام قيم ومعانٍ تصلح لكل زمان ومكان. وعليه فإن الأدب الحسيني، بهذا المعنى، يصبح مرآة تعكس القيم الإنسانية الكبرى وتعيد تأكيدها».

بثّ القيم المشتركة
ويضيف: «من إيجابيات أدب المنبر الحسيني قدرته على توحيد المجتمع حول قيم مشتركة. فهو يوفر مساحة للتعبير عن الهوية الجماعية والشعور بالانتماء. من خلال الاستماع إلى خطب وقصائد المنبر الحسيني، ويتعرف الأفراد على تاريخهم المشترك ويتأملون في القيم الأخلاقية والدينية التي تجمعهم. وعليه فهو يعزز الروابط الاجتماعية ويقوي الإحساس بالوحدة والتضامن. كما أنه يسهم أيضاً في التربية الروحية والفكرية؛ من خلال تأمل الأحداث التاريخية ومناقشة القيم الدينية، ليتعلم الأفراد دروساً عميقة عن الصبر، والشجاعة، والإخلاص. فالخطب الحسينية تقدم أنموذجاً يحتذى به في التضحية من أجل المبادئ السامية، ما يلهم الأفراد للسعي نحو تحقيق العدالة والحق في حياتهم اليومية».

تحديات
ويتابع: «ومع ذلك، ليس أدب المنبر الحسيني خالياً من التحديات والنقد. وأحد الانتقادات الموجهة له هو التركيز المفرط على الجانب العاطفي والحزن، مما قد يؤدي إلى إغفال الجوانب الأخرى من التعاليم الدينية التي تدعو إلى الأمل والعمل الإيجابي. وفي بعض الأحيان، يمكن أن تؤدي القصائد والخطب إلى تحفيز مشاعر الغضب أو الانتقام بدلاً من تعزيز التسامح والتفاهم. وكذلك، هناك قلق من أن بعض الخطباء قد يستخدمون المنبر الحسيني لتحقيق أهداف سياسية أو شخصية، ما يبتعد بالأدب الحسيني عن رسالته الروحية والأخلاقية. وهذا الاستخدام السياسي يمكن أن يؤدي إلى تقسيم المجتمع وإثارة النزاعات بدلاً من توحيده وتعزيز الروابط بين أفراده».

خطر الاجترار
ويشير يوسف في ختام حديثه، إلى مسألة مهمة يتعرض لها الخطباء، وهي تكرارهم واجترارهم لسرد القصص والأحداث نفسها، بأساليب متشابهة من دون تجديد في الفكرة والعمق والموضوع. مضيفاً بالقول: «إن هذا يمكن أن يجعل التجربة الدينية أقل تأثيراً ويؤدي إلى فقدان الشباب للاهتمام بهذا الأدب، وبالتالي يفقد الأدب الحسيني دوره الحيوي في المجتمع. ولمواجهة هذه التحديات، يمكن للخطابة الحسينية أن تتبنى نهجاً أكثر شمولية وتوازناً، يجمع بين التأمل في المعاني العميقة لواقعة كربلاء وبين تعزيز القيم الإيجابية التي تدفع المجتمع نحو التقدم والتغيير البناء. يمكن أيضاً تشجيع التجديد في أساليب السرد والتعبير الأدبي لضمان بقاء الأدب الحسيني حيوياً وجذاباً للأجيال الجديدة. فأدب المنبر الحسيني هو أداة قوية للتعبير عن الهوية الجماعية والقيم الإنسانية الكبرى، من خلال التركيز على الجوانب الروحية والأخلاقية العميقة. ويمكن لهذا الأدب أن يعزز الوحدة والتضامن في المجتمع، وأن يلهم الأفراد للسعي نحو تحقيق العدالة والحق. ومع ذلك، ينبغي أن يكون هناك وعي بالتحديات والنقد الموجه له، والعمل على تجديده وتطويره بشكل يضمن استمرار تأثيره الإيجابي والبناء في الحياة الدينية والاجتماعية»

منابر الأدب الشعبي
بينما يرى د. علي عبد علي الفؤادي (التدريسي في الجامعة المستنصرية، بكلية الآداب- قسم اللغة العربية) أن الخطابة تعاني من أمور كثيرة، وهي ليست كما في السابق، إذ يقول: «لم يعد يخفى على المثقف اللبيب أن الخطابة بعد رحيل كوكبة كبيرة من خطباء المنبر الحسيني وغياب آخرين لأسباب متعددة عن التصدي لتحمل المسؤولية، قد أضحت خاوية وخالية من أي أثر علمي أو تأثير فكري ذي شأن، فالنعي بطريقة نسائية معيبة وعدم وحدة الموضوع والإكثار من القصص الخرافية والحكايات الشعبية والصراخ غير المبرر والحركات الفوضوية التي لا تتناسب مع مقومات الشخصية المؤثرة وإلى غير ذلك».

مواصفات ومقومات الخطيب
ويضيف الفؤادي: «يبدو أن جهل المتلقي هو من فرض مواصفات الخطيب ومقومات نجاحه، وهي ليست أكثر من (الطرح السطحي والصوت الحسن)، فأصحاب المواكب والحسينيات وهم سماسرة نجاح الخطيب من عدمه، يبحثون عن صوت الخطيب قبل عقله؛ لأن المتلقي ميّال إلى نوع محدّد من الخطابة، وكل ذلك أسهم في صعود مجموعة من الخطباء هم عبارة عن (رواديد) لا يملكون أي تحصيل حوزوي أو أكاديمي، فالكثير من زملاء الدراسة الحوزوية أو من طلبتنا ممن كنا نعتقد بفشلهم في التحصيل العلمي قد أصبحوا من كبار الخطباء في هذا العصر، واللوم كله يقع على مؤسسة النجف الأشرف التي يجب ألا تسمح لجمهور البسطاء أن يحددوا مقومات الخطيب ومواصفاته».

المنبر.. سابقاً
بدوره، يطرح الشيخ عبد الكريم صالح، العديد من العوامل والنصائح التي يجب أن تؤخذ بالحسبان، بالنسبة للخطباء، وكذلك للقائمين على تنظيم المواكب والمجالس الحسينية، إذ يقول: «كان المنبر بصورة عامة والحسيني بصورة خاصة فاعلاً ومؤثراً، لكونه مصدراً مرئياً ومباشراً من مصادر المعلومة.
يتفاعل الناس معه ويتأثرون به، وكان السواد الأعظم من الناس ينهل منه العقيدة والأخلاق والعاطفة وشحذ الهمم وإيقاد جذوة الإيمان وتقوية الارتباط بالله تعالى ونبيه ودينه، بقطع النظر عن بعض السلبيات التي كانت ترافق بعض المنابر بسبب عدم كفاءة بعض مرتقيها وجعل المنبر وسيلة للعيش، وضخ الكثير من الخرافة من
خلاله».

المنبر.. حالياً
ويضيف: «أما في زمن توفر المعلومة وجعلها في متناول يد الغالب من الناس؛ بسبب تكنولوجيا التواصل، فأعتقد أصبح المنبر محدود التأثير وهو أمام لاعبين كثر بوسائل مختلفة، فالفضائيات والإنترنت ووسائل التواصل قد توسعت دائرتها لتضيق من دائرة المنبر وتجعله من الوسائل البدائية لتلقي المعلومة وتجعله محدود التأثير زماناً ومكاناً وأفراداً. إضافة إلى مرافقة السلبيات التي ذكرتها سابقاً، والتي بدت تبرز بشكل ملحوظ وعلني لكثير من الناس، خصوصاً أن الوسط الشعبي أصبح أكثر وعياً وثقافة».

استعادة البريق
ويشير الشيخ صالح، إلى أبرز العوامل والنقاط التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار؛ لاستعادة ريادة وألق وبريق المنبر، إذ يقول: «تعد كفاءة الخطيب أحد الأركان الأساسية في نجاح المنبر وتأثيره، فالناس ليس كالسابق يستمعون لكل من تزين بزي الدين وألقى معلومة إليهم، فيتمسكون بها ولا يطولها التشكيك أو الاعتراض، فلا بد من أن يكون الخطيب متخصصاً ومتعمقاً في مسائل الدين وواعياً لما يطرحه ويلقيه للناس. فعليه أن يترك أساليب منبر الدار والمسجد والقرية، وأقصد بها أنه لا يتصور أن ما يطرحه سوف يكون محصوراً بين جدران أربعة، ولا يسمعه سوى الحاضرين، بحيث أن الخطيب إذا رأى أن الجالسين تحت منبره أناس بسطاء سوف يطرح عليهم ما يتناسب ومستواهم حتى لو كان فيه ما فيه من الضعف وعدم القبول، فإن وسائل التسجيل متوفرة ومتاحة للجميع، وكل كلام يلقيه سيجده بعد ساعة منتشراً وبشكل واسع، ويكون محط سخرية واستهزاء وتندر من قبل الآخرين. فلا بد أن يضع في الحسبان أن الكلام الذي يطرحه سوف يتعدى مجلسه والحاضرين».

هدفٌ سامٍ
وبحسب عبد الكريم، الذي يؤكد : «ترك الخطيب لكل ما يمت للخرافة بصلة من قريب أو بعيد من الأخبار والروايات التي كثيراً ما يستعملها الخطباء للتأثير في عواطف الحاضرين وتحريكها، فمثل تلك الأخبار سوف تنفر الطبقة الواعية من الناس من منبره ولا يبقى له إلا تلك المستويات المتدنية والجاهلة من الناس، فيكون المنبر محدود التأثير حينئذٍ. وكذلك عدم جعل المنبر وسيلة للارتزاق، ويكون الخطيب صاحب مهنة يتقاضى أجوره عليها، فإنه لا يسمع منه كلام ولا يكون لوعظه وقع في سمع أحد، فضلاً عن قلبه، فما نراه من كثير من الخطباء في تقاضي الأجر والمعاملة على ذلك بلغ حداً لا يمكن قبوله والسكوت عليه، بحيث أنه لو حسبنا الدقائق التي يجلس فيها الخطيب على المنبر وقسمنا عليها ما يتقاضاه لوجدنا أنه يأخذ أكثر من أعلى موظف وعامل أو صاحب مهنة بأضعاف فاحشة، والمفروض أن هدفه سامٍ وهو الدعوة إلى الله تعالى».

رؤية دينيَّة وإلهيَّة
ويختم حديثه، بالقول: «على الخطيب أن ينظر في مشكلات عصره الاجتماعية والدينية، ويحاول أن يقرب الحلول والمعالجات لتلك المشكلات من الرؤية الدينية والإلهية بمقاربات واعية وعميقة. لا أن يركز على القضايا التاريخية والقصص المستهلكة التي لا تمت إلى واقعه بصلة. فهذه العوامل يمكن أن ترفع من رصيد المنبر وتجعل له المقبولية عند شريحة واسعة من
الناس».