محمد صابر عبيد
تخضع أفعال النص الأدبيّ في أنساقها اللغويَّة ابتداء إلى المنطق الأسلوبيّ؛ الذي يقوم بتوجيهها توجيهاً نسقياً بوصفها ظاهرة لغويَّة في المقام الأول، هذه الظاهرة اللغويَّة التي يصفها -بلومفيلد- في هذا السياق بأنها «سلسلة من المنبهات تتلوها استجابات تتحول هي الأخرى إلى استجابات أخرى»، هي حركة دائرية تواصليّة دائبة تنهض بها أفعال النص وتقود إلى كوننة النص وتفضئته، ولا يمكن للنص أن يتكامل على النحو المطلوب من دونها.
إنّ الفعل النصّي الأدبيّ بهذا المعنى هو استمرار لمعناه النحويّ بانفتاحه على قدرة التأثير والتسيير، ودفع الدوال باتجاه صيرورة دلاليّة تستجيب للمرجعيات المعجميّة والمستويات التعبيريّة والأشكال الأسلوبيّة والنظم الصياغيّة والعلاقات البلاغيّة والعلامات السيميائيّة، على نحوٍ يكون فيه الفعل النصّي مفصلاً حيوياً وحاسماً من مفاصل بنية النصّ وتكوينه وتشييد خصائصه النوعية.
ينقسم النص فضائيّاً على وفق هذه الرؤية على نصفين، وبين النص الموجود -لغةً- والغائب -قراءةً- يتراءى دور أفعال النص في تحريض منطقة القراءة، وإثارتها لصناعة مباهجها القرائيّة بتشغيل آليّتي الغياب والانتظار وتحريكهما باتجاه التواصل وتحقيق وحدة النصّ، وهذا ما ذهبت إليه نظريات القراءة والتلقّي واشتغلت عليه في مباحث رئيسة تمثّل جوهر هذه النظريات. تتأتى إمكانية هذا التحقق بلا شك وعلى النحو المطلوب من إدراك أنّ النصّ في تشكيله المزدوج يشتغل على ظاهرتين؛ أحدهما خارجيّة والأخرى داخليّة، إذ إنّ طبيعة التجنيس النصّي ووسائله الشكلية هي التي تحدد الشكل؛ وتفترض بنية أفعال نصيّة خاصة تنعكس ضرورةً على فعاليات القراءة وطرق تكوين مباهجها الخاصة.
وإذا كان المنظور الرئيس لـ -إنغاردن- يتحدد في «أن العمل الأدبي غير كامل ولا يظهر بصورة كاملة إلا من خلال التفاعل بين النص والقارئ»، فمعنى هذا أنه وحسب -بول فاليري- «لا يوجد معنى حقيقي للنص، ولا سلطة للمؤلف مهما كان الذي يريد قوله، فقد كتب ما كتب، وبعد أن ينشر النص يصبح أداة يستطيع كل واحد أن يفيد منها على طريقته وعلى وفق وسائله»، لأنه يصبح نصاً مشاعاً للجميع ومن حقّ كلّ قارئ أن يتفاعل معه على وفق رؤيته الخاصة ومنهجه الخاص ومزاجه الخاص.
ولعل هذا التلاحم البنائي بين الفعل والتصوّر من شأنه الارتفاع بأفعال النصّ ومباهج القراءة إلى أعلى مستويات إنجازها، وحسب الطبيعة الأجناسيَّة للنص التي من شأنها أن تحدد نوع الفعل وكيفيّة التصوّر، أو الاستجابة لسلطته أو أنموذجه ونمطه والاستسلام لمقولته النصيّة المجرّدة بوصفها واقعة كتابيّة ذات أهداف دلاليّة محددة، تخرج حين تتحوّل إلى خطاب عن نسقيتها الدلاليّة وتبدأ بالخضوع إلى كيفيات أخرى في التناول والتداول.
تبلغ العلاقة الجدليّة بين المنطقة التي تنطلق منها أفعال النص والمنطقة التي تتكوّن فيها مباهج القراءة أقصاها، حين يقرر -إيزر- وهو أحد عرّابي نظريات القراءة والتلقّي أن العلاقة بينهما «ليست علاقة تسير في اتجاه واحد: من النص إلى القارئ حيث يقوم القارئ عند استقبال النص بفكّ شفراته وفقاً لاتجاه من الاتجاهات النقديّة السائدة مثل الاتجاه البنيوي أو السيميولوجي أو الاجتماعي ونحوها، وإنّما هي علاقة تبادليّة تسير فيها عملية القراءة في اتجاهين متبادلين: من النصّ إلى القارئ ومن القارئ إلى النص ـ فبقدر ما يقدم النصّ للقارئ يضفي القارئ على النص أبعاداً جديدة قد لا يكون لها وجود في النص، وبذلك يصح القول بأن النص أثّر بالقارئ وتأثر به على حد سواء»، على نحو يكون فيه القارئ شريكاً في إنتاج النص في مستوى أو آخر من مستويات التكوّن والصيرورة.
يتكشّف هذا التأثير والتأثر عن نمط من التواصل الحي في الطبقات العميقة من المنطقتين؛ أشبه باللعب في المفهوم -الما بعد حداثي- لإشكالية النص الذي يستهلك نفسه أمام سلطة القارئ، لأنّ القارئ حين يواجه النص له قوانينه الخاصة به التي ليس بالضرورة متوافقة مع قوانينه في أصل تكوينه لدى المؤلّف.
إنَّ هذه العلاقة تنفتح على بعدها الإشكالي العميق حين تدخل أفعال النصّ في أنساق تجنيسيّة مغايرة، ومتموجة، وخارجة على حدود التصنيف الأجناسي بمواثيقه المعروفة التي تحدد طبيعة الجنس الأدبي ضمن قواعد وقوانين وأعراف قائمة ومتّفق عليها بين طرفي المعادلة.
لا يتوقف الإشكال هنا عند حدود التصنيف الذي يقرره الكاتب ويصفه كأن يضع توصيف «شعر» أو «رواية» أو «قصة» أو «مسرحية» أو «سيرة» أو غيرها على غلاف الكتاب، ويتبنّى القارئ ذلك بموجب هذا العقد الميثاقي بينهما، بل يتجاوز ذلك إلى طبيعة المادة الأدبيّة التي يحتويها الكتاب، ودرجة انسجامها مع التوصيف، وقابلية النص على الاستجابة لأعرافه وقواعده، على النحو الذي يبدأ القارئ فيه بتحرير جزءٍ من الميثاق لصالح قدرته على إثارة الأسئلة الأجناسيّة، وتوجيه النصّ حسب منطق أفعاله نحو مباهج قرائيّة تكتسب وجودها بقوة أفعالها المواجهة لأفعال النص، بحيث لا يعود فيه الكاتب حراً تماماً في تجنيس نصه من دون توافر عدد كبير من المبررات النصيّة والشكليّة والمضمونيّة التي تفرضه على القارئ بقوة الميثاق، على النحو الذي يصبح فيه الميثاق عقداً مبرماً أساساً بين اثنين (الكاتب والقارئ) هما محور اللعبة في إنتاج النص.