رامية منصور
"مهما بلغ الإنسان من تحضّر يبقى سلفه القديم كامناً في أعماق نفسه - كارل يونغ".
إنَّ الأسطورة هي فن قديم أوجدته ضرورات وعوامل معينة وهو يخضع لمفاهيم خاصة. والأسطورة، كما أرى، هي خلق حقيقة موازية، حقيقة ليست مميتة، شرط أن لا تسمح لها بأن تستعبدك!
قسَّمَ كلود ليفي شتراوس، عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي، الأسطورة لثلاثة مكونات هي: (الهيكل - الرمز - الرسالة). ولستُ متأكدة إن كان ماهود أحمد قد قرأ لشتراوس أم ألهمته فطرته الرافدينيَّة المشبّعة بروح الأسطورة والتوّاقة لإنتاجها على مرِّ الزمان، بيدَ أنّي أغلّب الاحتمال الثاني. حيث نجد ماهود قد عمل على تكوين لوحاته مثلما يكوّن الأسطورة أو يستلهمها فهو يبدأ بمعماريَّة اللوحة وهي الهيكل الذي سيحتضن الرمز المضمن للفكرة او العكس وكلاهما في النتيجة عملية ترميز ضمن اللوحة المبنية بناءً أسطورياً. وهذا الهيكل او المعمار التشكيلي الذي يتعاطى مع حجوم العناصر ويتحكّم بتوزيعها وحركتها لو فككناه الى قطع مساحية لوجدناه في أغلب أعمال ماهود مستقى من تراكيب نقوش الأختام الأسطوانيّة والمنحوتات الرافدينيَّة ورسوم يحيى الواسطي بشكل واضح لكنّه ليس حرفيَّاً، بل كان لماهود القول الفصل في فرض أسلوبيَّة تشكيليَّة
خاصة به.
يميل ماهود أحمد لاستخدام الرموز في لوحاته، وهذه الرموز تأتي على شكل حيوانات يستدرج معانيها المعروفة في الحضارات الرافدينيَّة وفي بيئته، بيئة المستنقعات المائيَّة الشاسعة التي يلعب فيها حيوان الجاموس الدور المحوري وهو ذات الدور الذي شغله في أساطير ومنحوتات ورسوم سومر واكد وآشور، مع بعض التحويرات أو التمظهرات والمعاني المبطنة، وكذلك رمز السمكة الذي يتنقل بين كونه مصدر غذاء رئيساً في بيئة الأهوار وبين عالم الكائنات الملائكيَّة أو رسل الآلهة القديمة وتمظهراتها.
إنَّ الرمز هو قلب الأسطورة التي هي في نهاية المطاف بناء خطابي يهيكل ويرمز لكي يصل إلى هدف الخطاب في زمن لم تكن فيه اللغة مدججة بآلياتها وأدواتها وقوتها التعبيريَّة والبلاغيَّة والصوريَّة، وهذا ينسحب على كل زمان أو شعب أو جماعة تفتقد إلى قوة اللغة الموازية أو المسايرة لقوة الثقافة والحضارة والتكنولوجيا في ذلك العصر.
قلنا إنَّ الرمز هو قلب الأسطورة وهو يقابل مكانة الرمز كمكون أول للوحدة في اللغة التي لا تتكوّن من كلمات تنتج كياناً لتُعطي الجملة، بل من رموز وهذه الرموز لها طابع ثنائي؛ الأول هو الظاهرة الحسيّة: الصوت أو الدال، والثاني هو الظاهرة العقليَّة: المعنى أو المدلول، كما يؤكد المنظّر السويسري فردينان دي سوسير في نظريته التي انطلق منها اللساني والناقد الأدبي الروسي رومان أوسيبوفيتش ياكوبسون في الألسنيّة البنيويّة، ومن ثمَّ لا يمتلك الرمز وجودا مستقلا بل هو متغير والأمر الوحيد الذي يمنح الرمز الثبات ويعطيه معنى هو العلاقة بين الصوت والمعنى أي بين الدال والمدلول كون الرمز هو الرابط أو العلاقة بين الدال والمدلول.
لم يحدث أن حصر ماهود أحمد معمارية لوحاته في عائلة لونيَّة محددة لكنَّه في ذات الوقت لم يجد من المهم أن يجهد نفسه في إيجاد عائلة لونيَّة ثابتة له رغم أنه كان يميل لألوان معينة متبعاً عفويته ومزاجيته التي تمارس كثيراً التلاعب بألوان الأشياء المتعارف على صبغة لونيَّة معينة لها، وقد يدخل مع هذه العفوية والمزاجية جانب لوني تعبيري يسيطر على الجو العام
للوحة.
كان ماهود أحمد يشعر بنوع من النفور تجاه القوالب الأسلوبيَّة المتكررة وهذا يرجع لروحه المتمرّدة التي وقعت في فخ الايديولوجيا السائدة في البلاد مما سبب له ردود أفعال نفسية انعكست على الكثير من لوحاته حيث تراه يصور حالات من الكآبة والنقمة على الحياة الاجتماعية والتمرّد العنيف والمستفز إزاء أعرافها يمكن للعين المحللة أن تبصرها بين سطور لوحاته..
لقد خلقت رؤية ماهود أحمد الفلسفيّة للحياة وتركيبته الفكريّة والنفسيّة وأسلوبه التقني المميز ومعماريّة لوحاته متنوعة الأشكال الحالة الأسلوبيَّة أو الأسلوب الخاص بماهود أحمد. إنَّ أسلوب ماهود أحمد، بكل بساطة، هو ماهود أحمد نفسه، وهذا منجز فني متفرّد بحد ذاته يحتسب لهذا الفنان الذي تغلغل في جنوب الأسطورة ليعبر عن تلك الطاقة الفطريّة المتّقدة بفلسفة جماليّة بصريّة ساحرة.